لم تكن الإذاعة الأردنية بالنسبة إلى الإعلامية ضياء فخر الدين مجرد مكان للعمل، بل كانت البيت الأول الذي احتضن موهبتها، والجامعة التي صقلت قدراتها، والنافذة التي أطلّت منها على قلوب وعقول المستمعين في الأردن والعالم العربي. على مدى سنوات طويلة، كان صوتها علامة فارقة في الأثير الأردني، حاملاً رسائل الدفء، والأخبار، والبرامج التي جمعت بين الفائدة والمتعة.
تبدأ الحكاية من لحظة بسيطة ولكنها مصيرية، عندما وقعت عيناها على إعلان في إحدى الصحف، تعلن فيه الإذاعة الأردنية عن حاجتها لتعيين مذيعين ومذيعات، ضمن شروط دقيقة تشمل الإلمام باللغة العربية السليمة، وحسن الإلقاء، والقدرة على التعامل مع الميكروفون بحرفية. شعرت حينها أن هذا الإعلان يناديها شخصيًا، فقررت التقدم للوظيفة.
كان أول اختبار لها أمام كبير المذيعين في ذلك الوقت، جبر حجّات، الذي استقبلها في الاستوديو وطلب منها قراءة مجموعة من الأخبار. كان الهدف من هذا الاختبار قياس جودة نطقها، وسلامة لغتها، وقوة حضورها الصوتي. كانت اللحظة حاسمة، لكنها أدتها بثقة، مما فتح لها الباب للمرحلة التالية.
بعد نحو شهر، تم استدعاؤها مع حوالي 30 متقدمًا ممن توفرت فيهم الشروط، للالتحاق بدورة تدريبية مكثفة استمرت ثلاثة أشهر. تضمنت الدورة دروسًا في قواعد اللغة العربية، وفنون الأداء الإذاعي، وتقنيات الإلقاء، وأسرار التواصل مع المستمعين. في نهاية الدورة، كانت المفاجأة أن اثنتين فقط اجتزن الاختبار النهائي، هما نعيمة الدباس وضياء فخر الدين، لتبدأ كل منهما رحلتها المهنية في الإذاعة.
في بداياتها، عملت تحت إشراف الإعلامي الكبير معاذ شقير، الذي كان مدير البرامج آنذاك. كانت ترافق المذيعات إلى الاستوديو، تتعلم منهن طريقة قراءة النشرات والمواجز الإخبارية، وتراقب أدق تفاصيل الأداء الإذاعي. وبعد فترة من التدريب والمراقبة، أُتيحت لها الفرصة لتقول على الهواء مباشرة جملة: "هنا عمّان"، وهي العبارة التي تمثل شرف الانتماء إلى بيت الإذاعة. بعدها بأسابيع، سُمح لها بقراءة خبر واحد ضمن النشرة الإخبارية، وكانت تلك بداية انطلاقتها الحقيقية.
حظيت ضياء فخر الدين في بداياتها بدعم ومساندة عدد من الأسماء الكبيرة في الإذاعة الأردنية، مثل خلدون الكردي، الذي فتح لها المجال للمشاركة في برنامجه الشهير "معكم في كل مكان". كما كان لـ هدى السادات دور بارز في مرافقتها إلى الاستوديو وتوجيهها في خطواتها الأولى. هذا الدعم كان بمثابة الجسر الذي عبرت من خلاله إلى جمهور أوسع، ورسخ ثقتها بنفسها.
قدمت ضياء على مدار مسيرتها باقة من البرامج الإذاعية المميزة، التي تركت بصمة واضحة في وجدان المستمعين منها:
البث المباشر – برنامج جماهيري ناقش قضايا المواطنين وهمومهم، واستضاف المسؤولين مباشرة على الهواء، وكانت تقدمه إلى جانب خلدون الكردي وصالح جبر.
ما يطلبه المستمعون – أحد أشهر البرامج في تاريخ الإذاعة الأردنية، حيث كانت تصل مئات الرسائل يوميًا من مختلف أنحاء العالم، تقوم بفرزها وقراءتها والرد عليها، مما أسس لعلاقة إنسانية قوية بينها وبين جمهور المستمعين. وفي استفتاء عربي أُجري في مصر، فازت الإذاعة الأردنية بالمركز الأول، واختيرت ضياء فخر الدين "المذيعة الأولى" في عهد مدير الإذاعة إبراهيم شاهزادة.
تذكرة سفر – برنامج ثقافي حواري يستضيف السفراء أو ممثليهم، للحديث عن تاريخ أوطانهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، بعيدًا عن السياسة.
شعر وموسيقى – برنامج أدبي موسيقي قدمته مع أسماء بارزة مثل زهور الصعوب، وبتول عباسي، وليلى القطب، وسمراء عبد المجيد، وكان يُبث في ساعة متأخرة ويستقطب شريحة واسعة من المهتمين بالفن الراقي.
كانت ضياء من بين المشاركات في حلقات جلسات التوثيق الإذاعي تحت عنوان "بعيدًا عن السياسة"، حيث عبّرت عن حبها العميق للوطن بقولها: «رسم أشكال للوطن بالأبيض والأخضر». هذه العبارة تلخص فلسفتها الإعلامية التي تمزج بين الانتماء الوطني واللمسة الإنسانية الدافئة.
عملت لفترة في إذاعة مجمع اللغة العربية، بدعوة من مديرها آنذاك الأستاذ عدنان الزعبي، حيث قدّمت برنامجًا صباحيًا بعنوان "صباح الورد"، وبرنامجًا أدبيًا شعريًا بعنوان "عذب الكلام"، الذي حمل لمساتها المميزة وأسلوبها الراقي في إلقاء الشعر والتعليق عليه. وقد شكّلت هذه التجربة محطة مهمة في مسيرتها، جمعت فيها بين الثقافة واللغة والإبداع، ورسّخت حضورها كصوت إذاعي محبب لدى الجمهور.
في لفتة تقدير لمسيرتها الإعلامية الزاخرة بالإنجازات، حظيت ضياء فخر الدين بتكريم خاص من جلالة الملكة رانيا العبدالله، إلى جانب نخبة من الإعلاميات المخضرمات، تكريمًا لعطائهن وإسهاماتهن المتميزة في خدمة الإعلام الأردني الرسمي. ولم يقتصر التقدير على هذا الحد، بل نالت خلال مسيرتها العديد من الجوائز والتكريمات في مناسبات مختلفة، تقديرًا لدورها الريادي وحضورها المؤثر في المشهد الإعلامي..
تمثل ضياء فخر الدين اليوم جزءًا من الذاكرة السمعية للأردنيين، وصوتًا من الأصوات الذهبية التي صنعت مجد الإذاعة الأردنية في حقبتها الذهبية. هي مثال للإعلامية التي جمعت بين الموهبة الفطرية، والصقل المهني، والالتزام الأخلاقي، لتبقى في وجدان المستمعين حتى بعد أن ابتعد صوتها عن الأثير