زكية عارف البوريني في ذاكرة الإعلام الأردني، تبرز كأحد الأسماء التي صنعت الفرق بكلمة صادقة وحضور إنساني يلامس هموم الناس واحتياجاتهم. ورغم رحيلها في صمت، فإنها تركت أثرًا عميقًا في قلوب المستمعين وزملائها على حد سواء، لتظل ذكراها حيّة في وجدان من عرفوها أو استمعوا إليها.
وُلدت زكية البوريني عام. نشأت في بيئة محافظة وعرفت منذ صغرها بذكائها وهدوئها ولغتها الرصينة، وهو ما مهد لها لاحقًا الطريق لتكون واحدة من أبرز الأصوات النسائية في الإذاعة الأردنية.
قبل دخولها المجال الإعلامي، عملت معلمة لرياض الأطفال في بلدة حواره بمحافظة اربد ، وارتبط اسمها بتعليم الأجيال الأولى من الأطفال بأسلوب إنساني وأمومي. ولم يكن غريبًا أن يصفها أهل حواره بـ"الأم الحانية"، وهي الصفة التي رافقتها في جميع مراحل حياتها.
في منتصف السبعينات، التحقت زكية البوريني بالإذاعة الأردنية، وبدأت عملها كمذيعة في البرامج الاجتماعية والإنسانية. كانت البداية متواضعة، لكنها سرعان ما فرضت صوتها ونبرتها على أثير الإذاعة، وأصبحت من أكثر الشخصيات المألوفة في أذن ووجدان المستمع الأردني، خاصة في برامج الفترات الصباحية والمسائية.
امتد عملها في الإذاعة لأكثر من 37 عامًا، عرفت خلالها بأدائها المهني الرصين، وقدرتها على إدارة الحوارات، وتقديم الموضوعات الاجتماعية والإنسانية بأسلوب مباشر، حميم، وواقعي.
على الرغم من عدم توفر أرشيف رسمي يوضح أسماء البرامج التي قدمتها بشكل محدد، إلا أن جميع المصادر تشير إلى أن زكية البوريني كانت صوتًا حيويًا في الفترات المفتوحة ذات الطابع الاجتماعي، حيث كان المواطن الأردني يتفاعل معها بشكل مباشر من خلال الاتصالات أو الرسائل.
كانت برامجها تُعنى بقضايا الناس اليومية: شكاوى، اقتراحات، مبادرات خيرية، وقضايا المرأة والأسرة. ومما زاد من حب الناس لها أنها كانت قريبة منهم، صادقة في انفعالاتها، وتُشعر كل مستمع أنه وحده محطّ الاهتمام.
لم تكتفِ زكية البوريني بدورها الإعلامي، بل نشطت أيضًا في العمل الاجتماعي، وأسست جمعية "حرائر" التي تعنى بحقوق المرأة الأردنية، وكانت تطمح إلى تمكين النساء وتوفير بيئة داعمة لهن.
كانت تؤمن بدور المرأة الحقيقي، لا في الصورة الإعلامية فقط، بل في التأثير الاجتماعي والتربوي والثقافي. وقد عبرت عن هذه القناعات في حواراتها العامة، ومداخلاتها في اللقاءات المجتمعية.
في السنوات الأخيرة من حياتها، أُصيبت زكية البوريني بمرض السرطان، وظلت تقاومه بصبر وعزيمة لأكثر من عام ونصف. تلقت العلاج في مستشفى الملك عبد الله المؤسس في إربد، وأصرّت رغم آلامها على البقاء قريبة من الإذاعة وزملائها.
رحلت مساء يوم الخميس 23 كانون الثاني 2014 عن عمر ناهز 66 عامًا، تاركة خلفها سجلاً مهنيًا وإنسانيًا لا يُنسى. شُيّع جثمانها من مسجد أم الحيران في عمّان، إلى مثواها الأخير في مقبرة العائلة.
في أيامها الأخيرة، حرص زملاؤها في الإذاعة الأردنية على تكريمها داخل المستشفى، حيث أُهديت لها درع الإذاعة ونسخة من المصحف الشريف، في موقف مؤثر عبّر عن تقدير المؤسسة لها كأحد أعمدتها.
وقد نعَت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردنية الإعلامية الراحلة بكلمات مؤثرة، وأشاد مدير الإذاعة آنذاك الاستاذ محمد الطراونة بأخلاقها العالية، ومهنيتها التي استمرت حتى اللحظة الأخيرة.
لم تكن زكية البوريني مجرد مذيعة، بل كانت صوتًا يمثل الناس، ويرفع صوتهم إلى منابر القرار، ويحتضن قضاياهم اليومية. كانت تحمل رسالتها الإعلامية بنقاءٍ نادر، وكان صوتها يحمل دفء الأمهات وحنكة المثقفين.
زكية البوريني هي من تلك القامات التي غادرتنا جسدًا، لكنها بقيت في ذاكرتنا صوتًا وصورة، قدوةً في التواضع والمهنية، وعلامة فارقة في تاريخ الإعلام الأردني النسائي.
"رحلت زكية وتركَت لنا المايكروفون وحيدًا، لكنه ما زال يردّد صوتها حين تقول: ‘معكم دومًا... أنتم أولاً’.”