"ترانيم حوراني" للكاتب الدكتور
هاني عبيدات... عزف على أوتار الوجدان والهوية
نيروز - محمد محسن عبيدات
ها هو الحرف يعود إلى مجراه، والنبض يوقظ
المعنى من سباته، عبر إصدار أدبي جديد يحمل عنوانًا عابقًا بالأصالة والانتماء:
"ترانيم حوراني"، للأديب الأردني الدكتور هاني عبيدات، ابن "حرثا"
الوادعة على كتف لواء بني كنانة، والتي أنجبت الكلمة كما أنجبت الرجال، وكان هو واحدًا
من أبنائها الأوفياء الذين حملوا وجع الأرض على أكتاف الحروف، وبثّوا في الكلمة روح
الوطن والانتماء.
صدر الكتاب حديثًا عن دار صامد للطباعة والنشر
والتوزيع – عمّان، في 148 صفحة من القطاف الأدبي الذي توزع بين الخاطرة والقصة القصيرة،
بأسلوب سلسٍ عذبٍ يمزج بين القيم الوجدانية والفكر الاجتماعي، ويضيء مساحات معتمة من
واقع عربي مأزوم بالتشظي، مطعون في خاصرته بالقهر والخذلان.
في "ترانيم حوراني" لا يكتب المؤلف
كلمات فحسب، بل ينثر وجعه الخاص والعام، ويبثّ وجدانه كما يُبثّ الأذان في فجر الوطن.
إنك حين تقرأ هذا العمل، لا تكتفي بقراءته، بل تعيشه، تنغمس فيه، وتجد نفسك جزءًا من
سرده، وكأن حكايا الكتاب ووجوهه قد خرجت من قلبك، أو من بيت الجيران.
الكاتب هنا ليس مجرد راوٍ يتأمل من بعيد،
بل هو حفيد أول شهيد أردني ارتقى على ثرى فلسطين، فجاء قلمه امتدادًا لذلك الدم النقي
الذي خضّب تراب القدس، فكان الحبر ميثاقًا، والكلمة عهدًا لا ينكسر. وهنا تتجلى تلك
المفارقة المدهشة: كيف للدم أن يتحول إلى قصة، وللحزن أن يصير ترنيمة، وللمأساة أن
تُروى كحكاية حب؟
يتميّز هذا العمل الأدبي بروحه الحورانية
الخالصة، والتي تمثل صورة مصغرة عن مزيج الأصالة والكرامة والكرم والتجذر بالأرض، ففي
كل خاطرة تنبعث رائحة القمح، وتتكشّف ملامح الجدة، وتنبض حكايا الطفولة، وكأن الأرض
تنطق بلسان صاحبها، وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا: "هذه أرضي، وهذه حروفي التي
زرعتها فيها، لن تذبل".
في زمن عزّ فيه الدفاع عن الثوابت، وأصبح
التمسك بالهوية فعلاً استثنائياً، يأتي كتاب "ترانيم حوراني" كمشروع وفاء،
وصوتٍ حقيقي في وجه النسيان والتآكل الثقافي. لا يكتب الدكتور عبيدات من أجل المجد
الشخصي، بل من أجل الجذور التي لا تموت، من أجل الهوية التي يحاول البعض طمسها، ومن
أجل لحمة تاريخية ووطنية بين الأردني والفلسطيني، لا يمكن لها أن تنفصل أو تنقطع مهما
تباعدت الجغرافيا أو اشتدت الرياح.
ولا يسع القارئ إلا أن يشيد بجزالة اللغة،
وصدق التعبير، وسمو المقاصد، حيث لا مواربة في الطرح، ولا تنميق في المشاعر، بل عمق
إنساني صافٍ، ينطلق من الذات ليحاكي قضايا الأمة من أوسع أبوابها، دون أن يقع في فخّ
التنظير أو الابتذال.
وفي كلمات الشاعر والروائي الأردني الراحل
تيسير سبول، نجد صدى لما يمثله هذا العمل: "الكلمة هي التي تمنحك الخلود، والحق
هو الذي يصنعك إنسانًا" وهذا بالضبط ما فعله الدكتور هاني عبيدات، إذ كتب ليمنح
القارئ فسحة للخلود، ونافذة يرى منها الحقيقة.
"ترانيم حوراني" ليس مجرد كتاب...
بل هو وثيقة وجدانية تؤرخ لجيل، وصرخة حبر في زمنٍ يعج بالصمت.
إنه كتاب يليق أن يُقرأ، ويُدرس، ويُهدى للأصدقاء،
لأنه ببساطة يحمل رسالة، ويملك هوية، ويصوغ الوطن بكلماته كما يُصاغ النشيد.
كل التحية لهذا الكاتب الذي آمن بالكلمة سلاحًا
نبيلاً، وبهذا الكتاب الذي جسد الوفاء، وأعاد للترانيم معنى.