في بلدة المزار الجنوبي، تلك الأرض التي باركتها سيرة الشهداء الأبرار: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبدالله بن رواحة، وُلد الإعلامي الأردني عبدالوهاب الطراونة عام 1946، ليبدأ منها مشوارًا إنسانيًا ومهنيًا امتد لعقود، طبع فيه ذاكرة التلفزيون والإذاعة الأردنية بروح وطنية ناصعة، وبصوتٍ ظلّ يحمل دفء الجنوب وصدق المهنة.
أكمل الطراونة دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس المزار الجنوبي، حتى أنهى الثانوية العامة عام 1967، وسط أحداث إقليمية كبرى كانت تلقي بظلالها على المشهد الأردني والعربي.
ثم واصل دراسته الجامعية، حيث حصل على بكالوريوس في القانون عام 1974، وهو تخصص منح رؤيته الإعلامية بُعدًا قانونيًا وإنسانيًا، ظهر جليًا لاحقًا في البرامج التي تناولت شؤون المواطنين.
التحق عبدالوهاب الطراونة بالتلفزيون الأردني في دائرة الأخبار، وهناك عمل معدًّا ومقدمًا لبعض البرامج التلفزيونية، ثم تنقّل إلى الإذاعة الأردنية ليعمل مذيعًا ومقدمًا لبرامج ذات طابع تثقيفي وخدمي. امتاز بأسلوبه الواضح، وصوته الدافئ، واهتمامه بإيصال المعلومة للمواطن بصدق ووعي.
من أبرز برامجه التلفزيونية برنامج "دليل المستهلك"، الذي حظي بمتابعة واسعة من الجمهور، نظراً لما قدمه من معلومات وإرشادات تسهم في حماية المستهلك الأردني، وتعزيز ثقافة الأمن الغذائي، والتوعية بالحقوق والواجبات.
كما قدّم البرنامج الميداني "قريتنا"، والذي كان بمنزلة نافذة تطل منها الشاشة الأردنية على القرى النائية، حيث رصد أوضاع الناس، واحتياجاتهم، ومطالبهم، فكان بمثابة صوت لهم في قلب العاصمة، ينقل نبض الأطراف إلى مركز القرار.
وفي الإذاعة الأردنية، برز الطراونة من خلال عدة برامج مهمة، منها:
"شؤون بلدية": برنامج سلط الضوء على خدمات البلديات، ونقل ملاحظات المواطنين ومطالبهم بأسلوب هادف.
"جريدة المساء": برنامج إخباري تحليلي قدّم فيه الأحداث بأسلوب إذاعي راقٍ، جامع بين العمق والوضوح.
في عام 1985، تم انتدابه مستشارًا إعلاميًا في ديوان البلاط السلطاني، وهو منصب رفيع عكس مكانته الإعلامية والمهنية، وثقة الدولة به.
كما انتُدب ثلاث مرات إلى كوريا الجنوبية للعمل في إذاعة كوريا القسم العربي، حيث عمل مذيعًا للأخبار ومخرجًا تلفزيونيًا، في تجربة دولية ثرية نقل خلالها صورة الأردن إلى المستمعين العرب من شرق آسيا، وأطلع على تجارب إعلامية عالمية أسهمت في تعميق أدواته المهنية.
شارك الإعلامي عبدالوهاب الطراونة في العديد من الندوات والدورات الإعلامية داخل الأردن وخارجه، ما أهّله ليكون واحدًا من الأصوات المهنية المتوازنة التي جمعت بين التجربة الميدانية والمعرفة النظرية.
بعد مشوار حافل بالعطاء، أُحيل الطراونة على التقاعد بالدرجة الخاصة، وهي من أعلى الدرجات الوظيفية في الخدمة المدنية الأردنية، واختار بعدها التفرّغ لحياته العائلية، مُكرّسًا نفسه لرعاية أسرته وتعليم أبنائه حتى أنهوا دراستهم الجامعية.
لم يسعَ للظهور الإعلامي بعد التقاعد، بل حافظ على تواضعه وتفرّغه، مؤمنًا بأن الإنجاز الحقيقي هو أن تترك أثرًا طيبًا لا ضجيجًا عابرًا.
عُرف عبدالوهاب الطراونة بمهنيته العالية، والتزامه الوطني، وانحيازه للقضايا الإسلامية والاجتماعية، دون أن يجنح إلى الإثارة أو الشعارات. كان يعشق عمله بصدق، ويؤديه بإخلاص، وهو ما جعله محل تقدير زملائه ومتابعيه.
لم يكن مجرد مذيع أو مقدم برامج، بل كان صوتًا يعبر عن الناس، ومثقفًا يعرف وزن الكلمة، ورجلًا يرى في الإعلام رسالة لا وظيفة فقط.
عبدالوهاب الطراونة هو واحد من أولئك الذين لا تملأ صورهم الشاشات، لكنهم يُشكلون ضمير المهنة، وبوصلتها الأخلاقية. ترك بصمة واضحة في الإعلام الأردني، واحتفظ بسيرته نظيفة نقيّة، ليبقى مثالاً يُحتذى به في زمن تتغير فيه المعايير، وتبهت فيه الأصوات الصادقة.