في زمن تحوّلت فيه المنصات الإعلامية من كلاسيكية تقليدية إلى أدوات رقمية فائقة السرعة والتأثير، أصبح المشهد الإعلامي الأردني يعيش حالة من السيولة والتداخل، بين من يمارس الإعلام بمهنية واحتراف، ومن يعبث به بعيدًا عن أي ضوابط أو مرجعيات. فبين إعلامٍ كلاسيكي كان يخضع لمعايير صارمة، وإعلام رقمي بات مفتوحًا أمام الجميع دون استثناء، تبرز الحاجة الماسّة لإعادة تقييم البيئة الناظمة للعمل الإعلامي.
لم يعد الإعلام محصورًا في القنوات والصحف الرسمية، بل أصبح في متناول أي هاتف ذكي أو صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أحدث فوضى عارمة في إنتاج المحتوى، وأربك مفاهيم الرقابة والمصداقية، وأضعف المعايير المهنية التي بُنيت عليها المهنة لعقود.
من هذا المنطلق، تبرز مسؤولية هيئة الإعلام الأردنية كمؤسسة وطنية ذات صلاحية في التنظيم والرقابة، لتعيد تمكين نفسها بدور أكثر فاعلية ومرونة، مواكبٍ لحجم التحديات الرقمية الجديدة. الهيئة مطالبة اليوم بقراءة معمّقة للتحوّلات الرقمية، والعمل على تشريعات ناظمة واضحة ومُحدثة تضع معايير واضحة لما يمكن أن يُسمى "إعلامًا"، ولمن يحق له أن يُمارس هذه المهنة بمسؤولية.
إنّ غياب التشريعات الناظمة أو ضعفها أحيانًا فتح الباب أمام ممارسات غير مهنية، بل وأحيانًا خارجة عن القانون، مما أضرّ بمكانة الإعلام الأردني وأفقده جزءًا من ثقة الجمهور. وهنا، فإننا نُطالب الحكومة الحالية بإعادة النظر في البنية التشريعية والإدارية التي تحكم العمل الإعلامي، وبأن تعمل على التخطيط ورسم سياسات حازمة تضبط المهنة وتحميها من العبث والانتهاك.
في الوقت ذاته، لا بد من الإشارة إلى أن الضبط لا يعني التقييد، بل التمكين، وتمكين الإعلام الحقيقي من العمل بحرية ومسؤولية ضمن أُطر قانونية واضحة، تحفظ هيبة الكلمة، وتصون حق الجمهور في المعرفة، وتحمي المجتمع من التضليل.
إننا في هذه المرحلة الدقيقة، بحاجة إلى إعلام وطني حرّ، ولكن أيضًا منضبط وواعٍ، لا يعمل لمصالح ضيقة، ولا يجنح نحو التهويش، بل يبني، ويرتقي، ويعبّر عن نبض الوطن ومواطنيه.