في مسارات الحياة المهنية، قليلون هم الذين يعرفون متى تكون لحظة التحوّل ضرورية، وأندر منهم من يمتلكون الجرأة على العبور من ضوء الشهرة إلى ظلّ الصمت الخلاق. الإعلامي زياد فريج هو أحد هؤلاء القلائل الذين لا تُقاس إنجازاتهم بعدد البرامج التي قدّموها، ولا بالسنوات التي أمضوها خلف الميكروفون، بل بقدرتهم على ترجمة الموهبة إلى رسالة، والرسالة إلى مشروع، والمشروع إلى أثر ممتدّ في أجيال.
لم يكن صوته فقط ما ميّزه في الإذاعة الأردنية منذ أواخر الستينيات، بل أيضًا نبرته الإنسانية التي جعلت من كل برنامج مساحة دافئة للحوار والوعي والترفيه الذكي. وحين اختار أن يطوي صفحة العمل الإعلامي في منتصف الثمانينيات، لم يفعل ذلك لأن وهج الميكروفون خفت، بل لأنه آمن أن الرسالة يمكن أن تُقال أيضًا من على منبر الفصل، ومن خلال منظومة تربوية متكاملة تصنع العقول لا الآراء فقط.
هكذا، لم تكن رحلة زياد فريج بين الإعلام والتعليم انتقالًا وظيفيًا، بل سيرة رجلٍ آمن أن الوطن لا يُبنى بالكلمات وحدها، بل بالأثر الذي تتركه تلك الكلمات حين تتحوّل إلى فعل، وإلى مؤسسات تُربّي وتُعلّم وتُهذّب
وُلد زياد فريج في عمّان عام 1944، في مرحلة كانت تشهد تحولات كبرى في هوية الدولة الأردنية الحديثة، وفي بدايات تشكُّل مؤسساتها الإعلامية. التحق بالإذاعة الأردنية عام 1968، وهي محطة مفصلية ليس فقط في مسيرته المهنية، بل أيضاً في تكوينه الثقافي والوطني. دخل الإذاعة في مرحلة كانت فيها الكلمة مسؤولة، والصوت وسيلة لنقل الوعي قبل الترفيه، فبرز بأسلوبه الهادئ، وصوته الواثق، وحضوره القريب من القلب.
قدّم زياد فريج مجموعة من البرامج التي تنوّعت بين الصباحي واليومي والحواري والاجتماعي، مما يدلّ على مرونة شخصيته الإعلامية وقدرته على التفاعل مع ألوان شتّى من الجمهور. من أبرز برامجه:
مرحباً يا صباح: برنامج صباحي أحبّه المستمعون، وتميّز بالبساطة والدفء، ما جعله رفيقاً للناس في بداية يومهم.
البث المباشر: من أوائل البرامج التي تبنّت التفاعل الفوري مع الجمهور، وشكّل منصة حوارية غير تقليدية.
أبناؤنا في الخارج: برنامج إنساني واجتماعي، يربط الأردنيين المغتربين بوطنهم، ويعرض قصصهم وتطلعاتهم.
لا جديد تحت الشمس: من إعداد الإعلامي راكان المجالي، وشارك فيه زياد فريج كمقدّم، حيث دمج بين العمق الثقافي والأسلوب البسيط.
باقة ورد، واخترنا لك: برامج وجدانية وترفيهية راقية، تنوّعت بين الموسيقى والرسائل والمشاركات.
ديرتنا: برنامج سياحي إذاعي، ألقى الضوء على جماليات الأردن ومواقعه التاريخية، بأسلوب جذاب ومحبب.
بهذا التنوّع عكس خبرة زياد فريج وشغفه بالعمل الإذاعي، وجعل منه واحداً من أكثر الأصوات قرباً إلى وجدان المستمعين.
في عام 1985، وبعد قرابة عقدين من العطاء الإذاعي، اتخذ زياد فريج قراراً حاسماً بترك الإذاعة، ليتفرّغ لمشروعه التربوي الخاص. لم يكن قراراً بالانسحاب، بل كان انتقالاً إلى ميدان آخر لا يقل أهمية أو تأثيراً. أسّس شركة العون للتعليم، وهو يشغل حالياً منصب المدير العام لها، ولا يزال يشرف على مؤسساته التعليمية حتى اليوم.
المشروع التربوي الذي أطلقه فريج لم يكن مجرد استثمار، بل جاء من قناعة بأن بناء الإنسان يبدأ من التعليم، وأن التجربة الإعلامية التي صقلت شخصيته يمكن أن تتحوّل إلى رسالة تعليمية هادفة.
ما يجمع بين تجربة زياد فريج في الإذاعة وتجربته في التعليم هو الرسالة. ففي الأولى، حمل الكلمة إلى الناس، وفي الثانية، حمل القيم والمعرفة إلى الأجيال. وفي الحالتين، حافظ على انتمائه العميق للأردن، وإيمانه بدور الفرد في بناء المجتمع.
إنّ سيرة زياد فريج تصلح لأن تُدرّس كمثال على التحوّل الإيجابي في المسار المهني، دون انقطاع عن القيم الأساسية. لقد بقي صوتاً حتى في صمته الإعلامي، وبقي مربيًا حتى وهو بعيد عن الصفوف.
ورغم ابتعاده عن الأثير، لا يزال كثير من الأردنيين يذكرون صوته، ويرددون أسماء برامجه. فالإعلام الصادق يترك أثره، لا في اللحظة فقط، بل في الذاكرة الطويلة للمجتمع.
وفي زمن باتت فيه الأصوات تتشابه، يظلّ صوت زياد فريج مختلفاً... لأنه كان يحمل قلباً وعقلاً ورسالة.