لم يكن مازن القبج مجرد إعلامي يطل من خلال الميكروفون أو شاشة التلفزيون؛ كان حكاية من تراب البلاد، تجسيدًا لوجدان الفلاح الأردني وصوته، ومرآةً للريف وهمومه ومواسمه ومطره. كان إعلاميًا بطعم الأرض ورائحة القمح، ودراميًا دون أن يتكلف التمثيل، إذ جعل من البساطة والصدق أدواته الدائمة.
ولد عام 1936، ورحل في 2001، لكن ما بينهما أكثر من ستين عامًا من العطاء الذي جعل منه أحد أعمدة الإعلام الأردني، وأحد أوائل من أسسوا للدراما الأردنية الإذاعية، وللبرامج الزراعية المؤثرة في وعْي الناس وحياتهم اليومية.
وُلد مازن القبج في بلدة عنبتا بمحافظة طولكرم في فلسطين عام 1936، في بيت ريفي بسيط تملأه روح الأرض والحقول. وقد نشأ في كنف بيئة زراعية أصيلة، تركت أثرًا عميقًا في وجدانه، ووجهت اهتمامه لاحقًا نحو خدمة الفلاحين وتوثيق حياتهم.
التحق بالعمل في وزارة الزراعة الأردنية كمرشد زراعي في منتصف خمسينيات القرن الماضي، فاكتسب خبرة ميدانية مبكرة، صقلته مهنيًا وإنسانيًا. هذا الاحتكاك اليومي بالمزارعين ومشاكلهم، سيكون لاحقًا الأساس في بناء شخصيته الإعلامية التي جمعت بين المعرفة الميدانية والأسلوب الإنساني العفوي.
في عام 1959، التحق مازن القبج بالإذاعة الأردنية، وكان حينها مشروعًا وطنيًا ناشئًا. وما لبث أن أصبح من أبرز الأسماء فيها، حيث قدّم باقة من البرامج التي سرعان ما أصبحت جزءًا من ذاكرة الأردنيين.
وقد تميّز القبج بصوته الدافئ، وأسلوبه الشعبي القريب إلى القلب، ولهجته المحكية التي حملت دفء الريف وصدق الحقول، بعيدًا عن التصنع والفصاحة الجافة.
بناءً على طلب من وصفي التل، الذي كان يشغل حينها منصب مدير الإذاعة الأردنية، أُطلقت أول تجربة درامية إذاعية أردنية بعنوان "مضافة أبو محمود"، وكان مازن القبج أحد مؤسسيها إلى جانب الفنان إسحق المشيني. وقد شكل هذا البرنامج نقطة التحول الكبرى في الإعلام الأردني، إذ فتح الباب أمام الدراما المحلية لتولد من رحم الواقع الشعبي.
كانت "المضافة" عبارة عن جلسة إذاعية تمثيلية، يجتمع فيها ممثلون يناقشون قضايا اجتماعية وسياسية وحياتية بطريقة تمثيلية بسيطة، لكنها ذات مغزى عميق. وقد نُقل لاحقًا إلى التلفزيون تحت اسم "مضافة الحاج مازن"، ليستمر لسنوات وهو يعالج قضايا الناس بأسلوب شعبي تمثيلي يجمع بين الكوميديا والنقد الاجتماعي.
ربما لا يوجد برنامج إذاعي أو تلفزيوني في الأردن ارتبط اسمه بمقدمٍ كما ارتبط "البرنامج الزراعي الأرض الطيبة" باسم مازن القبج.
بدأ البرنامج في الإذاعة، ثم امتد إلى التلفزيون، واستمر عرضه لأكثر من أربعين عامًا. وكان بمثابة حلقة وصل بين الدولة والمزارع، حيث كان القبج ينقل مشاكل المزارعين من الميدان، ويطرحها بأسلوب عملي مباشر، مع توجيه إرشادات وتوصيات فنية من المختصين.
كما قدم برامج أخرى بارزة، من بينها:
"مع المزارع": حوارات مباشرة من قلب الحقول.
"مضافة الحاج مازن": البرنامج التمثيلي الاجتماعي.
"غنوا معنا": برنامج غنائي للأطفال عرض عام 1980 عبر التلفزيون الأردني.
لم يقتصر دور مازن القبج على البرامج الواقعية، بل خاض تجربة التمثيل أيضًا في المسرحيات والمسلسلات، حيث شارك كممثل وكاتب. وقد كان لظهوره طابع خاص، يجمع بين العفوية والبساطة التي يحبها الناس.
نظير عطائه الكبير في الإعلام والإرشاد الزراعي، حاز مازن القبج على جوائز وأوسمة عديدة، منها:
جائزة منظمة اليونسكو للتطوير الدولي للاتصالات الريفية، عام 1991، تكريمًا لبرامجه الزراعية.
وسام الاستقلال الأردني.
وسام الكوكب الأردني من الدرجة الثالثة.
شهادة فخرية كمهندس زراعي من نقابة المهندسين الزراعيين، تقديرًا لإسهاماته في خدمة القطاع الزراعي.
في 15 فبراير 2001، رحل الحاج مازن القبج، تاركًا خلفه إرثًا إعلاميًا وإنسانيًا لا يُنسى. وقد فجعت الأوساط الإعلامية والشعبية بخبر وفاته، لما كان له من مكانة خاصة في قلوب الناس.
لكن رحيل الجسد لم يُنهِ الأثر؛ فمازن القبج ظل حاضراً بصوته في ذاكرة الريف، وابتسامته في أرشيف التلفزيون، وحكمته في كل مضافة أردنية تروي حكايات البساطة والنقاء.
إن مازن القبج لم يكن إعلاميًا عاديًا، بل كان ظاهرة فريدة جمعت بين الإعلام والدراما والتعليم والإرشاد. كان يجيد مخاطبة الناس بلغتهم، ويعرف كيف يوصل رسالته دون تكلف، فأصبح أحد أعمدة الإعلام الشعبي الوطني، ومثالاً للإعلامي الذي ينتمي إلى مجتمعه ويخدمه بإخلاص.
لقد استطاع أن يحول المذياع إلى حقل، والكاميرا إلى مضافة، والبرنامج إلى تجربة حياة. وسيبقى اسمه محفورًا في الذاكرة الوطنية، كصوتٍ للأرض والناس، وواحدٍ من رواد الإعلام الأردني الأصيل.