كتب : عماد الشبار : في زمنٍ كانت الكلمة فيه تصنع الوعي، والصوت يرسم ملامح الحقيقة، ظهر طارق مصاروة كأحد الأصوات التي نضجت في ظلال الميكروفون، وسارت بثقة عبر أثير الإذاعة وصفحات الجرائد، لتكتب تاريخًا إعلاميًا حافلًا على مدى أكثر من خمسين عامًا.
لم يكن طارق مصاروة مجرد إعلامي، بل كان جزءًا من التكوين الثقافي والسياسي للأردن الحديث. صحفي وكاتب ومعلّق سياسي، تشكلت تجربته وسط التحولات الكبرى في الوطن العربي، وكانت كتاباته تفيض بالانتماء، وقراءاته للمشهد تميل إلى العمق، وتبتعد عن الانفعال.
ولد طارق سليم مصاروة في مدينة مأدبا عام 1939، حيث كانت البلاد حينها على أعتاب الدولة الحديثة، تنهض من زمن الإمارة إلى عهد الاستقلال والمؤسسات. تلقى تعليمه المدرسي في دمشق، وهو ما ترك أثرًا مبكرًا في توجهاته الفكرية، حيث انفتح على الفكر القومي العربي في بيئة ثقافية تمور بالحراك السياسي والفكري.
في دمشق، تشرّب أفكار أنطون سعادة وجمال عبد الناصر، وتأثر برواد الفكر القومي العربي، فكان أن حمل هذا الوعي معه عندما عاد إلى الأردن، وانخرط في العمل الصحفي منذ مطلع شبابه.
عام 1958، كتب طارق مصاروة أولى كلماته الصحفية في صحيفة الوطن، وهي أول صحيفة تصدر في عمّان. لكن تلك التجربة كانت قصيرة، إذ توقفت الصحيفة عن الصدور بعد أشهر قليلة، ما جعله يتحول إلى منبر آخر أكثر استقرارًا وتأثيرًا: الإذاعة الأردنية.
في 15 أيار/مايو 1959، التحق بالإذاعة، حيث بدأ محررًا ومعلقًا سياسيًا في دائرة الأخبار. هناك، تشكل صوته المهني، وراح ينسج علاقة وثيقة بين الكلمة والميكروفون، بين التحليل والخطاب السياسي المتزن. في زمن لم تكن فيه الصورة قد سيطرت بعد، كانت الإذاعة هي وسيلة الدولة والمجتمع لفهم العالم، ومصاروة كان أحد أهم من رسموا حدود هذا الفهم لدى الناس.
عام 1965، ارتقى ليصبح رئيسًا للدائرة السياسية في وزارة الإعلام، موقعٌ حساس في دولة تتشكل هويتها الإعلامية، وتخطو نحو تثبيت مكانتها السياسية عربياً.
حين قررت الدولة الأردنية إنشاء محطة تلفزيونية وطنية، تم اختيار عدد من الكفاءات للإيفاد والتدريب. كان طارق مصاروة من بين نحو 25 إعلاميًا أوفدوا عام 1966 إلى عدة دول، حيث اختير هو للتدريب في ألمانيا الغربية، فدرس فيها دبلوم برمجة تلفزيونية، واكتسب أدوات جديدة في إنتاج الصورة والخطاب البصري.
عاد إلى الأردن عام 1969، والتحق لفترة قصيرة بالتلفزيون، قبل أن يُنتدب كـملحق صحفي في ألمانيا، ليكتسب بذلك خبرة دولية في العمل الدبلوماسي الإعلامي. عاد نهاية عام 1970، وشارك في تأسيس واحدة من أبرز الصحف الأردنية: صحيفة الرأي.
مع منتصف السبعينيات، تفرّغ طارق مصاروة للإدارة والعمل الصحفي:
1975: عُيّن مديرًا للبرامج في الإذاعة الأردنية، في عودة جديدة إلى صوته الأول.
1977: أصبح مديرًا إداريًا لصحيفة الدستور.
1985: تولى منصب مدير عام صحيفة الشعب، وهي صحيفة يومية مؤثرة آنذاك.
1986: تولى إدارة شركة الإنتاج التلفزيوني والإذاعي والسينمائي الأردنية، ليقود الصناعة الإعلامية من موقع القرار.
وفي هذه الفترة، أصبح طارق مصاروة ليس مجرد صحفي، بل مهندسًا إعلاميًا يصوغ الرؤية وينفذ السياسات، بحس وطني عميق، ونَفَس نقدي منضبط.
لكن طارق مصاروة لم يتخلَّ عن قلمه. بل على العكس، استقر به الحال في صحيفة الرأي، حيث كتب زاوية سياسية يومية أصبحت من أبرز أعمدة الصحافة الأردنية لعقود. بأسلوبه الهادئ، الواضح، الخالي من الزخرفة، قدّم قراءة متوازنة للشأنين المحلي والعربي.
في مقالاته، لا تشعر بالخطابة ولا بالانفعال. بل تجد موقفًا قوميًا راسخًا، نقدًا رشيدًا، واقتراحات تلمّح ولا تفرض. وكان دائمًا منحازًا للدولة الأردنية، دون أن يكون صوتًا رسميًا، بل صوتًا وطنيًا مستقلًا، يتكئ على المعرفة والتجربة.
في عام 2003، تم تعيينه عضوًا في مجلس الأعيان الأردني (المجلس العشرون)، حيث نقل خبرته الإعلامية إلى المجال التشريعي. وفي عام 2011، اختير ليشغل منصب وزير الثقافة، وهو تتويج لمسيرة طويلة من الكتابة والفكر والانتماء.
في 21 نيسان/أبريل 2019، رحل طارق مصاروة، ففقدت الساحة الإعلامية الأردنية أحد حكمائها وأعمدتها. نعاه رؤساء الوزراء، وكتب عنه الكتّاب والمثقفون، وقالوا إنه "كان مدرسة في الاتزان، وصوتًا منضبطًا في زمن الفوضى"، "من الذين جمعوا بين الرأي والمعلومة، وبين الحزم واللين".
يُعد طارق مصاروة جزءًا أصيلًا من الذاكرة الإعلامية الأردنية، لا فقط بما كتبه وقاله، بل بما أسّسه من مواقف، وبما مرّره من مفاهيم الاعتدال السياسي والانتماء الوطني.
ترك خلفه آلاف المقالات، ومئات ساعات البث، وعشرات الزملاء الذين تعلموا على يديه. بقي حاضرًا في وعي الناس من خلال أسلوبه الفريد: واضح، صريح، بلا مزاودة، ولا مجاملة، لكنه دائمًا في صف الوطن.
رحم الله طارق مصاروة… فقد غادر الصوت، لكن صداه باقٍ.