مع اقتراب انطلاق انتخابات مجلس الشيوخ، تتجه الأنظار مجددًا نحو الغرفة الثانية للبرلمان المصري، ليس فقط بوصفها استحقاقًا دستوريًا، بل باعتبارها أحد الملامح الراسخة للجمهورية الجديدة التي تؤمن بتعدد الرؤى، وعمق المشورة، وتوسيع قاعدة المشاركة الوطنية.
لقد بات واضحًا أن مجلس الشيوخ القادم لن يكون مجرد مؤسسة استشارية تقليدية، بل سيكون ـ إن أُحسن تشكيله وإدارته ـ بمثابة عقل الدولة التشريعي الاستراتيجي، الذي يُعنى برسم السياسات الكبرى، وتحليل الاتجاهات، وصياغة الرؤى الوطنية في ضوء التحديات الإقليمية والتحولات المتسارعة في المشهد الدولي.
يأتي هذا الاستحقاق وسط حالة سياسية فريدة، تتسم بعودة الحراك الحزبي والتحالفات السياسية الكبرى. فقد شهدت القائمة الوطنية لمجلس الشيوخ القادم تنسيقًا لافتًا بين عدد من الأحزاب ذات الثقل، وهو ما يعكس رغبة حقيقية في بناء توافق وطني عريض. لكن ـ وبكل وضوح ـ لا ينبغي أن يتوقف المشهد عند اختيار الأسماء الرفيعة، بل يجب أن يتسع لاستيعاب الكوادر الشابة، والخبرات الواعدة، التي تمثل المستقبل الحقيقي للدولة المصرية.
وإذا كان البعض يسأل: "ماذا ينتظر مجلس الشيوخ؟"، فإن السؤال الأكثر إلحاحًا هو: "ماذا ننتظر نحن، الشعب المصري، من مجلس الشيوخ؟"
ننتظر مجلسًا قويًا، ناضجًا، لا يخضع لإملاءات أو توازنات شكلية، بل يعبّر عن ضمير الوطن، ويسهم بفعالية في تحسين التشريعات، وتطوير الرؤية الاستراتيجية للدولة. ننتظر منه أن يكون مساحة حوار وطني راقٍ، ورافعة لتمكين الشباب والمرأة، ومنصة تعزز من مبدأ تكافؤ الفرص وتداول الخبرات.
لقد آن الأوان أن يتسع هذا المجلس ليكون عنوانًا للتجديد، لا للتكرار. فمصر تمتلك طاقات شبابية هائلة، أثبتت كفاءتها في شتى المجالات، ومن الظلم ـ بل ومن الخطأ السياسي ـ أن تُستبعد هذه الطاقات من المشاركة الفعالة في صناعة القرار.
إن إشراك الشباب في مجلس الشيوخ ليس ترفًا سياسيًا، بل هو ضرورة وطنية، خاصة ونحن نبني الجمهورية الجديدة التي لا تحتمل الجمود ولا تقبل بالأنماط التقليدية. الجمهورية الجديدة تحتاج إلى وعي شاب، وعقول متجددة، ونظرة مستقبلية قادرة على استشراف المخاطر وصياغة البدائل.
كما يجب أن تتسم العملية الانتخابية بالنزاهة والشفافية الكاملة، وتقطع الطريق على أية محاولة لربط هذا الاستحقاق بالمال السياسي أو الاتهامات المعتادة التي تُلصق أحيانًا بالمشهد الانتخابي.
إن الدولة المصرية اليوم، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، تسير على طريق الإصلاح العميق، والجدية المطلقة في البناء، ولا تحتمل أية صورة تُشوّه هذا الطريق. ومن هنا، فإن نفي أي تهمة تتعلق بشراء الأصوات أو استغلال النفوذ ليس فقط أمرًا أخلاقيًا، بل هو واجب وطني لضمان نزاهة البرلمان القادم.
إن تشكيل مجلس الشيوخ سيكون بلا شك مقدمة مباشرة لما سيكون عليه مجلس النواب لاحقًا. فإذا ما جاء مشهد الشيوخ متوازنًا، رشيدًا، شابًا، وفاعلًا، فسيمنح إشارات إيجابية للناخب والمجتمع، وسيمنح الأحزاب فرصة لإعادة التموضع، وللشباب الثقة في المسار السياسي ككل.
أما إذا خضع المشهد لمعادلات قديمة، وتوازنات تقليدية، فإنه سيؤثر سلبًا على المزاج العام، وسيُضعف من وهج الاستحقاقات القادمة، وعلى رأسها انتخابات مجلس النواب.
البرلمان القادم ـ بشقيه الشيوخ والنواب ـ ليس كغيره. إنه برلمان يحمل أعباء التحول نحو الجمهورية الجديدة. برلمان يُنتظر منه أن يصيغ قوانين المستقبل، ويُراعي العدالة الاجتماعية، ويُعلي من شأن الشفافية والرقابة.
وفي ظل تحديات إقليمية جسيمة، وصراعات دولية تعصف بمفاهيم السيادة والاستقرار، فإن وجود مجلس تشريعي قوي، يملك القدرة على الرصد والتحليل، والدفاع عن مصالح الدولة المصرية، يُعد عنصرًا حيويًا من عناصر حماية الأمن القومي والدفاع عن الإرادة الوطنية.
إن الرهان الحقيقي في هذه المرحلة ليس فقط على الأحزاب أو التحالفات، بل على وعي الشعب المصري، الذي أثبت في كل محطة انتخابية كبرى أنه قادر على الفرز، والاختيار، ومحاسبة من يُخطئ.
ومع انطلاق قطار الانتخابات، فإن مسؤولية تشكيل مجلس شيوخ فاعل لا تقع على عاتق المرشحين فقط، بل تقع على كاهل كل مواطن مصري، يملك صوته ويملك قراره، في سبيل بناء دولة مدنية قوية، عادلة، تُعلي من مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.