هناك شخصيات إعلامية لا تُنسى، لأنها لم تكن مجرد أسماء على الشاشة أو الميكروفون، بل كانت رسلًا للوعي، وأصواتًا للحق، ووجوهًا مميزة ساهمت في تشكيل الوعي الوطني وتعزيز الخطاب القومي. من بين هذه الأسماء يبرز جورج إبراهيم حداد، الإعلامي المخضرم الذي ترك بصمة قوية في الإعلام الأردني، وكان حاضرًا في أهم المنعطفات السياسية، حاملاً الكلمة كسلاح، والرؤية كمنهج.
ولد جورج حداد في السلط عام 1934، وبدأ مسيرته المهنية في وقت كانت فيه البلاد والمنطقة تعيش مخاضات سياسية كبرى، لا سيما ما بعد نكسة عام 1967. التحق بالإذاعة الأردنية ليكون جزءًا من الجبهة الإعلامية، ومنذ خطواته الأولى أظهر قدرة استثنائية على استخدام الكلمة كسلاح في معركة الوعي القومي، فكان أحد أبرز المعلقين السياسيين وصنّاع الرأي في تلك المرحلة.
انطلقت رحلة جورج حداد المهنية من إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية، حيث تولى منصب رئيس القسم السياسي. وقدّم خلال عمله برامج ومداخلات وتحليلات سياسية يومية كانت تواكب الأحداث الإقليمية والدولية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي المستمر.
تميّز في تلك المرحلة بخطاب إذاعي متماسك، عميق ومباشر، يبتعد عن الشعارات الجوفاء ويعتمد على المعلومة الدقيقة واللغة المؤثرة. كان يحلل الأحداث من منظور قومي عربي، ويطرح رؤى سياسية ذات بعد استراتيجي، مما أكسبه مصداقية عالية لدى المستمع الأردني والعربي.
لم يلبث جورج حداد أن انتقل إلى التلفزيون الأردني، حيث كانت له بصمات مهنية وسياسية بارزة. تولى إدارة دائرة الأخبار، وكان من أوائل الذين أدركوا أهمية الإعلام المرئي في تشكيل الرأي العام. ومن خلال هذا الموقع، ساهم في تطوير النشرات الإخبارية وإعادة صياغة الخط التحريري للتلفزيون، ليواكب تطورات العصر ويعكس نبض الوطن والمواطن.
لكن إسهامه الأكبر كان في تأسيس قسم اللغة العبرية في التلفزيون الأردني، وهو القسم الذي استخدم كأداة في الحرب النفسية ضد العدو الإسرائيلي. أشرف حداد على إعداد الرسائل الإعلامية الموجهة للإسرائيليين عبر القناة الأردنية باللغة العبرية، وتُروى عن هذا القسم قصص كثيرة، من بينها أن رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك غولدا مائير قالت: "لم تتعرض إسرائيل لحرب نفسية أعنف من تلك التي شنها التلفزيون الأردني".
كان جورج حداد يشرف على إعداد وترجمة الأخبار والتقارير، وتقديمها بلغة العدو، بهدف توجيه رسائل مدروسة ضمن معركة الوعي القومي، بأسلوب يوصل الرسالة ويفضح الأكاذيب، ويكرس الرواية العربية في وجه الرواية الصهيونية.
بعد خروجه من العمل الرسمي في التلفزيون والإذاعة، لم يتوقف جورج حداد عن العطاء. استمر في الكتابة والتحليل عبر الصحف الأردنية، وساهم في النقاشات السياسية والفكرية، وظل صوتًا حاضرًا وفاعلًا في قضايا الوطن. عُرف بمقالاته الصريحة التي لم تُهادن، وتحليلاته القوية التي كانت نابعة من إيمان عميق بالقضية الفلسطينية، وبالهوية القومية للأردن والعرب.
تميّز جورج حداد بأسلوب فريد في الكتابة والخطاب، جمع بين البلاغة والوضوح، وبين العاطفة والعقل. لم يكن مجرد مذيع أو محرر، بل كان مفكرًا يستخدم الميكروفون والكاميرا ليخدم فكرة وهدفًا. كان يؤمن أن الإعلام ليس مجرد مهنة، بل رسالة وطنية وأخلاقية، وهو ما انعكس في كل ما قدّمه خلال مسيرته الطويلة.
وقد تربّى على يده جيل من الإعلاميين، تعلموا منه كيف تكون الكلمة موقفًا، وكيف يكون الإعلام أداة للوعي وليس مجرد ترفيه أو استعراض.
يُعد جورج حداد من الشخصيات المؤسسة للخطاب الإعلامي السياسي في الأردن، ولا يمكن الحديث عن تاريخ الإعلام الرسمي في البلاد دون التوقف عند دوره الكبير في الإذاعة والتلفزيون. لقد كان مدرسة قائمة بذاتها، ومديرًا لا يساوم على القيم والمبادئ، وإعلاميًا لا يبحث عن شهرة، بل عن أثر.
ورغم مرور السنوات، ما زال أثره باقياً في أرشيف الإعلام الأردني، وفي ذاكرة من سمعوه وقرؤوه، وفي الجيل الذي واصل الطريق على نهجه.