في ذاكرة الدولة الأردنية، هناك رجالٌ لم تكتب أسماءهم على لافتات، ولم ترفع صورهم في حملاتٍ أو مناسبات، لكن أثرهم راسخ في وجدان الوطن، ومن هؤلاء الشيخ برنس عضوب الزبن (1918–1993م)، أحد أعمدة الحكمة والهيبة والصدق في الانتماء، وحفيد الزعيم العربي طراد الزبن، وابن الشيخ عضوب الزبن، أحد رجال الثورة العربية الكبرى الذين أسسوا لمرحلة النهوض الوطني.
ولد الشيخ برنس في بيئة تتنفس المجد، لكنه لم يركن لإرثه العشائري فقط، بل حمل هذا المجد بوعي ومسؤولية، وسار على خطى رجالات الأردن الكبار الذين صنعوا الفرق دون صخب، وتركوا الأثر دون ادّعاء.
رجل الميدان في فلسطين
لم يكن الانتماء عند الشيخ برنس شعارًا، بل ممارسة. ففي ريعان شبابه، التحق بـحركة الجهاد المقدس في فلسطين (1947–1948)، إلى جانب القائد عبد القادر الحسيني، ليكون من أوائل الأردنيين الذين رهنوا أعمارهم دفاعًا عن فلسطين، فحمل السلاح لا طلبًا لمجد شخصي، بل التزامًا بقضية عربية عادلة، يوم كانت القضايا تسبق الحسابات، وتعلو على المصالح.
هيبة بلا استعراض.. ونزاهة بلا ثمن
امتاز الشيخ برنس بحضوره الهادئ، وكلامه القليل الموزون، فمجالسه كانت محجًا لأهل الرأي والحاجة، ليس لسطوة أو سلطة، بل لصدق نية ورجاحة عقل. لم يكن من رجال الواجهة، بل من صُنّاع القرار خلف الكواليس، بصمت ووقار، حين كان يشغل موقع مستشار في الديوان الملكي الهاشمي لأكثر من ربع قرن (1969–1993م).
ورغم قربه من أعلى دوائر الدولة، ظلّ وفيًّا لأخلاق الفقر والعفة، فقد عاش في بيت متواضع من الطوب في قرية نتل شرق مأدبا، وقاد سيارته القديمة حتى آخر أيامه، ورحل مديونًا لمؤسسة الإقراض الزراعي، تاركًا إرثًا ناصعًا من النزاهة التي عزّ مثيلها في زمن التهافت على المنافع والمناصب.
التيار المنتمي... لا المنتفع
كان الشيخ أبو بسّام أحد أبرز وجوه ما يمكن تسميته بـ"التيار المنتمي"، ذاك التيار الذي أسس للدولة، وثبّت أركانها، وساهم في بناء جسورها مع الناس، دون شعارات جوفاء أو اصطفافات ظرفية. انتماؤه كان عفويًا، صادقًا، عميقًا، لا يبحث عن مكاسب، ولا يساوم على المبادئ.
لم يغيّر موقفه بتغير الحكومات، ولم يتلوّن بلون المرحلة. بقي ثابتًا على القيم التي تربّى عليها: الكرامة، والعدل، وخدمة الناس، والإخلاص للدولة دون الوقوع في فخ التزلّف أو الشعبوية.
رجل الدولة الحقيقي
في زمن الضجيج والانشغال بالشكل دون الجوهر، تفتقد الدولة الأردنية اليوم أمثال الشيخ برنس عضوب الزبن، رجل الدولة الحقيقي الذي كان صمّام أمان بين الدولة والعشائر، ووسيطًا نزيهًا موثوقًا بين الحكومة والناس، يُحترم حيثما حل، لا لمال أو منصب، بل لهيبة نابعة من الصدق والمروءة.
لقد خدم وطنه بإخلاص، دون أن ينتظر مقابلًا، وظلّ بيته مفتوحًا لكل صاحب حاجة، يرى في قضاء حوائج الناس واجبًا لا تفضّلًا. وفي كل منطقة من مناطق الأردن، ستجد من يحتفظ بقصة عن "أبو بسّام"، قصة وفاء، أو خدمة، أو موقف رجولة.
في الذاكرة الوطنية
حين نُقل الشيخ إلى مثواه الأخير عام 1993، لم يترك وراءه ثروة، لكنه ترك إرثًا من المحبة والاحترام، وسيرةً ناصعةً يتداولها الأردنيون باعتزاز. لقد جسّد في حياته أن الكرامة لا تحتاج إلى ثروة، وأن الانتماء لا يُقاس بشعارات، وأن رجال الدولة الحقيقيين لا يتكررون كثيرًا.
رحم الله الشيخ برنس عضوب الزبن، أحد أبناء الأردن الأوفياء، ورجالاتها الكبار، وسادة الانتماء الصامت والعمل النزيه. ونسأل الله أن يُكثر في هذا الزمن أمثال "أبو بسّام"... زمنٍ بات فيه الوفاء نادرًا، والعمل بصمت مدهشًا، والانتماء النظيف عملةً نادرة.