في قاعةِ المجلسِ الأوروبيِّ بمدينةِ ستراسبورغ الفرنسيَّة، ألقى جلالةُ الملكِ عبدِاللهِ الثاني ابنِ الحسين خطابًا تاريخيًّا أمامَ المجلسِ الأوروبيّ، تضمَّن مجموعةً من المضامينِ العميقةِ والهامَّة، ممتدَّةً على مدىً زمنيٍّ يُناهزُ ١٤٠٠ عام.
ركّز جلالتُه خلالَ كلمتِه على القيمِ الأخلاقيَّة، والمُثُلِ العُليا، والعدالةِ الاجتماعيَّة، وهي القيمُ التي حثَّ عليها دينُنا الإسلاميُّ الحنيف، والتي حملَها الهاشميُّون كابرًا عن كابر، منذ العهدةِ العُمريَّة وحتّى الوصايةِ الهاشميَّةِ المُعاصِرة على المقدَّساتِ الإسلاميَّةِ والمسيحيَّةِ في القدسِ الشريف.
وقد ربطَ جلالتُه هذه القيمَ بالدَّورِ التاريخيِّ والدينيِّ والسياسيِّ الذي تنهضُ به الأسرةُ الهاشميَّة، والذي يُجسِّدُه اليوم بكلِّ اقتدارٍ جلالةُ الملكِ نفسُه، حاملًا هذه المبادئَ السَّامية والمنبثقةَ من رسالةِ الثورةِ العربيَّةِ الكبرى الكبرى، ومدافعًا عنها على كافَّةِ المنابرِ الدوليَّة.
كان الخطابُ قوميًّا بامتياز، تميَّز بالوضوحِ والجُرأة، وقوطِع بالتصفيقِ الحارِّ مرارًا وتكرارًا لما تضمَّنه من مضامينَ شُجاعة، وتحذيراتٍ صريحةٍ من قلبِ الموازينِ على المستوى الدوليّ، حيث أشار جلالتُه إلى التَّهديداتِ المتزايدةِ للقيمِ الدينيَّةِ والأخلاقيَّةِ والإنسانيَّة، والانتهاكاتِ الصَّارخةِ للقانونِ الدوليِّ والإنسانيِّ، وعلى رأسِها ما تقومُ به قواتُ الاحتلالِ في المسجدِ الأقصى المبارك وفي سائرِ المقدَّسات.
ونوَّه جلالتُه أنَّ هذه الانتهاكاتِ تُهدِّدُ الدَّورَ التاريخيَّ الذي يقومُ به الهاشميُّون بموجبِ الوصايةِ الهاشميَّة، ليس فقط من الناحيةِ الدينيَّة، بل من حيث استقرارِ المنطقةِ واحترامِ القانونِ الدوليِّ.
لقد جاء هذا الخطابُ في لحظةٍ حرجةٍ، ومن على منبرٍ أوروبيٍّ مرموق، مُوجَّهًا رسالةً قويَّةً إلى الاتحادِ الأوروبيِّ والمجتمعِ الدوليِّ والعالمِ أجمع، كاشفًا حجمَ الانتهاكاتِ المُتكرِّرةِ للقانونِ الدوليِّ، واستمرارَ سياسةِ ازدواجيَّةِ المعايير، واختراقَ ما نصَّت عليه المواثيقُ الدوليَّة، ممَّا فاقمَ مشاعرَ القهرِ والظُّلمِ بين الشُّعوب.
وطالب جلالتُه بإيجادِ حلولٍ سياسيَّةٍ عادلةٍ للصِّراعات، من أجلِ استعادةِ الثِّقةِ بعدالةِ النِّظامِ الدوليِّ، مُشيرًا إلى تراكُمِ الأزماتِ في السَّنواتِ الخمسِ الأخيرة، بدءًا من جائحةِ كورونا، وما رافقَها من خلطٍ للمعلوماتِ والتَّضليل، مرورًا بالحربِ الأوكرانيَّةِ الروسيَّة، ثمَّ الحربِ الوحشيَّةِ على قطاعِ غزَّة وفلسطين، التي تجاوزت كلَّ الأعرافِ الأخلاقيَّةِ والإنسانيَّة، ووصولًا إلى الاعتداءِ السَّافرِ على إيران – وهي دولةٌ عضوٌ في الأممِ المُتَّحدة – كلُّ ذلك في مشهدٍ يُعبِّرُ عن حجمِ الانفلاتِ، وفقدانِ البوصلةِ الأخلاقيَّة، وتفشِّي الانقسامِ والكراهيَّة بدلًا من قيمِ العدالةِ والفضيلة.
واستعرضَ جلالتُه في خطابِه محاورَ عدَّة، منها الدَّورُ المحوريُّ للشَّباب، وأهمِّيَّةُ العدالةِ الاجتماعيَّة، مؤكِّدًا أنَّ لأوروبا دورًا رئيسًا في بناءِ مستقبلٍ أكثرَ عدالةً وحريَّة. وأعلنَ استعدادَ الأردنِّ للوقوفِ إلى جانبِ الموقفِ الأوروبيِّ في دعمِ عالمٍ آمنٍ ومستقرّ، والعملِ سويًّا على إيقافِ هذه الحربِ المسعورةِ والظالمةِ على غزَّة وفلسطين، وإنصافِ الشُّعوبِ المظلومة، وفي مقدِّمتِها الشَّعبُ الفلسطينيُّ، بإقامةِ دولتِه المستقلَّة، وفقًا لما نصَّت عليه قراراتُ الشَّرعيَّةِ الدوليَّة.
لقد كان خطابُ جلالةِ الملكِ خطابًا تاريخيًّا بامتياز، اتَّسم بالقوَّة، وجرأةِ الطَّرحِ والقائدِ المسؤول، والوفاءِ للحقِّ، والتَّصدِّي للظُّلمِ والعُدوان، دفاعًا عن الكرامةِ الإنسانيَّة، ومن أجلِ إعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه..