إنه وفي خضم أزمة سياسية داخلية تفتح فيها متحدثة البيت الأبيض النار على الجميع، تستيقظ أوروبا على وثيقة أمريكية تصفها بأنها "مستعمرة متدهورة"، فترد باستثمار تاريخي لشراء استقلالها. بينما تشن كارولين ليفات، متحدثة البيت الأبيض، حرباً على الصحافة وتتنكر لوالدة ابن شقيقها المحتجزة، يوجه ترامب إهانة تاريخية لأوروبا وصفاً إياها بـ'المستعمرة المتدهورة'. مشهدان يختزلان تحولاً أمريكياً خطيراً: من الداخل حيث تُقطع أواصر الإنسانية، إلى الخارج حيث تُهان أقرب الحلفاء. هذه قصة صراع بين منطق الهيمنة المطلق وإرادة البقاء.
التوتر في البيت الأبيض: حرب كارولين ليفات على الصحافة والقرابة
يرسم أداء المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفات، صورة لقلعة محاصرة. فبدلاً من أن تكون جسرًا للتواصل، تحولت المؤتمرات الصحفية تحت إدارتها إلى ساحة مواجهة، يتصاعد فيها التوتر مع المراسلين يومًا بعد يوم. يعتمد أسلوب ليفات، كما يلاحظ الصحفيون، بشكل صارخ على نصوص جاهزة ومعلبة، مما يحوّل الحوار إلى خطاب أحادي الجانب. وهذا التكتيك لا يهدف فقط إلى التحكم بالرواية، بل يُستخدم بشكل منهجي لقطع الأسئلة غير المريحة واتهام الصحفيين، علنًا أحيانًا، بأن أسئلتهم تنطلق من "سوء النية". هذه البيئة المعادية تخلق فجوة عميقة من انعدام الثقة وتُفرغ دور الصحافة الاستقصائي من مضمونه، مما يطرح علامات استفهام كبرى حول التزام الإدارة الحقيقية بمبدأ الشفافية.
لكن التحول الأكثر إثارة لم يقتصر على العلاقة المهنية، بل امتد ليطال نسيج العلاقات الشخصية للمتحدثة. فالضغوط الهائلة لمنصب يعيش صاحبه تحت المجهر دفعَت بليفات، بحسب مراقبين، للانكفاء داخل "فقاعة البيت الأبيض". هذه العزلة الذاتية القسرية أدت إلى برود ملحوظ في تعاملها حتى مع أصدقاء وزملاء مسيرة طويلة، حيث أصبحت الأولوية القصوى حماية المنصب واجتناب أي موقف قد يُفسَّر ضد مصلحة الإدارة. وهكذا، تُختَزَلُ الشخصية الإنسانية في مهام البروتوكول، وتُقْطَعُ أواصر الماضي باسم سياسات الحاضر.
والدة ابن شقيق ليفات ترفض "الرواية المثيرة للاشمئزاز"
تتجاوز أزمة الثقة إطار العمل لتمتد إلى قلب العائلة، في فصل إنساني مؤلم يكشف كيف يمكن أن تُسْتخدم القصص الشخصية كذخيرة في المعارك السياسية. فبرونا فيريرا، والدة ابن شقيق كارولين ليفات، وجدت نفسها فجأة في مركز عاصفة إعلامية بعد احتجازها بسبب وضعها كمهاجرة. سارع البيت الأبيض إلى إصدار بيان يقطع أي صلة بين ليفات وفيريرا، واصفًا الأخيرة بـ"المجرمة" ونافيًا بشكل قاطع أنها عاشت مع ابنها ذات يوم.
من داخل مركز الاحتجاز في لويزيانا، ردت فيريرا على هذه الرواية بمشاعر الجرح والخيانة. في مقابلة مع "واشنطن بوست"، وصفت الادعاءات الرسمية بأنها "مثيرة للاشمئزاز" وكاذبة، مؤكدة أنها كانت على علاقة وثيقة مع عائلة ليفات لسنوات، بل إنها اختارت كارولين ليفات نفسها لتكون عرابة ابنها. وقالت فيريرا: "طلبت من كارولين أن تكون العرابة على أختي الوحيدة. لقد ارتكبت خطأ هناك، في الثقة". وأضافت بأنها "نقلت الجبال" لتضمن حضور ابنها لحفل زفاف ليفات في وقت سابق من العام ذاته. هذا التناقض الصارخ بين الرواية الإنسانية الشخصية والسرد السياسي الرسمي لا يسلط الضوء على مأساة فردية فحسب، بل يعري آلية قاسية يتم فيها التضحية بالحقائق والعلاقات الإنسانية على مذبح الحفاظ على الصورة العامة.
الحرب على الحرم الجامعي: حين يصبح التعبير عن الرأي جريمة
في وقت تشتد فيه المعارك الداخلية، تتصاعد أيضًا حرب الإدارة على حرية التعبير داخل الحرم الجامعي الأمريكي، مستهدفةً الأصوات المنتقدة لسياساتها الخارجية، وخاصة الداعمة منها للقضية الفلسطينية. قصة روميسا أوزتورك، طالبة الدكتوراه في جامعة تافتس، هي نموذج صارخ على ذلك. فقد اعتُقِلت أوزتورك، التي تحمل تأشيرة طالب، واحتُجِزت لمدة 45 يومًا بعد أن ألغت السلطات تأشيرتها. المبرر الوحيد الذي قدمته الحكومة كان افتتاحية شاركت أوزتورك في تأليفها تنتقد فيها استجابة جامعتها للحرب في غزة.
أمر قاض اتحادي مؤخرًا بالإفراج عنها وإعادة وضعها القانوني، مقتنعًا بأن احتجازها شكل "انتقامًا غير قانونيًا" وانتهاكًا صريحًا لحقها في حرية التعبير. في حكمه، أشار القاضي إلى أن الإدارة قدمت "مبررات متغيرة" وغير منطقية لإنهاء وضعها. هذه الحالة ليست معزولة، بل هي جزء من نمط مقلق يُعرِّف النشاط المؤيد لفلسطين داخل الولايات المتحدة ويجعله هدفًا للعقاب، مما يثير سؤالًا أساسيًا حول مدى أمان السفر أو الدراسة في الولايات المتحدة لأي شخص يحمل رأيًا سياسيًا معارضًا، وخاصة في قضايا الشرق الأوسط.
هل أمريكا مكان آمن؟ استقطاب يهدد الزائر والناقد
تتضافر سياسات الإدارة الداخلية والخارجية لترسم صورة لقوة عظمى تتحول إلى بيئة معادية للتعددية والنقد. هذا الاستقطاب الحاد يثير هواجس جدية لدى المسافرين الدوليين، وخاصة من خلفيات عربية أو إسلامية، أو أولئك الذين يحملون آراءً ناقدة لسياسات الحكومة.
المخاطر المحتملة تشمل:
· تدقيقًا أمنيًا مميزًا: على خلفية خطاب عنصري ضد المهاجرين، يخشى المسافرون من زيادة التدقيق والتحقيقات المطولة عند نقاط الدخول بناءً على العرق أو الدين.
· عقابًا على التعبير: كما في حالة أوزتورك، قد يؤدي التعبير عن آراء ناقدة، وخصوصًا للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى مضايقات أو فقدان الفرص أو حتى الترحيل.
· مناخًا سياسيًا خانقًا: البيئة السياسية والاجتماعية باتت شديدة الاستقطاب، وقد لا تكون مرحبة أو آمنة للتعبير عن آراء تتعارض مع الخط الرسمي. لذلك، لم يعد السؤال عن "الأمان" في أمريكا يقف عند السلامة الجسدية التقليدية، بل امتد ليشمل "الأمان السياسي" والشعور بالترحيب. فالمسافر أو الطالب الذي يحمل آراءً معينة، أو ينتمي إلى خلفية محددة، قد يجد نفسه تحت مجهر لا يرحم، في تحول عميق ينذر بعزلة أمريكا عن جزء كبير من العالم.
الرد الأوروبي: 6.8 تريليون يورو من أجل الاستقلال
في الوقت الذي تشن فيه واشنطن حروبها الداخلية، وجهت ضربة استراتيجية قاسية لحلفائها التاريخيين في أوروبا. فقد وصفت "استراتيجية الأمن القومي" الجديدة لإدارة ترامب أوروبا بأنها قارة في حالة "تدهور حضاري"، واتهمت مؤسساتها بتقويض السيادة، وذهبت إلى حد التنبؤ بأن أوروبا ستصبح "غير قابلة للتعرف" خلال عقدين. الأكثر إهانة، أن الوثيقة نسبت للأوروبيين رغبة في إنهاء حرب أوكرانيا بشروط مواتية لروسيا، واتهمت حكوماتهم بـ"خيانة شعوبها". خلاصة الرؤية الأمريكية، كما لخصتها مجلة "لوبوان"، هي دفع أوروبا لتصبح "مستعمرة أميركية" تتخلى عن سيادتها.
لم يكن الرد الأوروبي مجرد بيانات استنكار غاضبة، بل تحول إلى فعل استراتيجي تاريخي. فقد أعلن الاتحاد الأوروبي عن خطة استثمارية ضخمة تصل قيمتها إلى 6.8 تريليون يورو بحلول عام 2035، لتحويل الدفاع من عبء مالي إلى محرك للنمو الصناعي والتكنولوجي. الهدف واضح وثوري: "إنتاج الأمن لا استيراده". هذه المبادرة، الأضخم في تاريخ الاتحاد في زمن السلم، تهدف إلى بناء سوق دفاعية موحدة، وتعزيز الإنتاج المحلي، وتقليل الاعتماد على الموردين الخارجيين، ورفع نسبة المشتريات العسكرية المشتركة بين الدول الأوروبية بشكل كبير. إنها إجابة عملية وحاسمة على سؤال الهيمنة الأمريكية، تُترجم فيها الكرامة السياسية إلى تريليونات من الاستثمارات وقدرات صناعية ذاتية.
صراع الوجود.. من ضحية الهجرة إلى ضحية الهيمنة
في الختام، تتداخل الخيوط لتروي قصة واحدة كبيرة: قصة صراع بين منطقين. من جهة، منطق الهيمنة الذي تمارسه إدارة ترامب، والذي لا يتورع عن تحطيم الحقيقة في المؤتمرات الصحفية، وتشويه صورة أمٍ تسعى لحياة كريمة، وقمع الأصوات الحرة في الجامعات، وتصوير حلفاء دائمين كشعوب متدهورة تحتاج إلى الوصاية. إنه منطق يرى في العالم كله - سواء الصحفي الناقد، أو القريب المهاجر، أو الحليف الأوروبي - مجرد أدوات أو عقبات في طريق تفرد القوة الأمريكية المطلقة.
ومن جهة أخرى، يقف منطق المقاومة والبقاء. تقف برونا فيريرا، بكل هشاشتها الإنسانية، لترفض الرواية الرسمية "المثيرة للاشمئزاز". وتقف أوروبا العجوز، المتهمة بالاحتضار، لترد باستثمار تاريخي هو بمثابة إعلان استقلال تريليوني، قائلة إنها لن تكون مستعمرة لأحد. وتقف القيم الديمقراطية الأساسية، ممثلة بقضاء مستقل، لتدين انتهاك حرية التعبير. الصراع الدائر اليوم ليس على سياسات مؤقتة، بل على طبيعة النظام العالمي المقبل. هل سيكون عالمًا أحادي القطب، تسيطر فيه قوة واحدة على الحقائق والعلاقات والقارات؟ أم أن هجمة الهيمنة هذه، بقسوتها وصراحتها غير المسبوقة، ستكون الصدمة التي توقظ إرادات أخرى للدفاع عن كرامتها واستقلالها؟ الإجابة تكتبها دموع أم في مركز احتجاز، وأسطر قاضٍ في حكم تاريخي، وتريليونات يورو في خطة أوروبية لمحو وضع التبعية إلى الأبد. المعركة ليست بين أمريكا وأعدائها، بل بين أمريكا وجزء كبير من إنسانيتها وضميرها وحلفائها.