من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً صدق الله العظيم.
ترجّل فارس من فرسان قبيلة بني صخر عن صهوة جواده، مخلفًا وراءه سيرة عطرة وأعمالًا جليلة قلّ نظيرها فقد كان الفقيد مثالًا للشجاعة والإقدام والكرم والرجولة رجلًا مغوارًا وشهمًا وصاحب مواقف، وسيرته مفعمة بالمرجلة ومقاومة الشدائد، تاركًا أثرًا يليق بنا أن نقتدي به ونفخر إنه ابن العمومة، شيخ القبيلة وسيدها، الزعيم والعميد والنائب والعين والوزير، الذي غادر عالمنا إلى لقاء ربه المغفور له بإذن الله جمال حديثة الخريشا نسأل الله أن يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته.
نعم، لقد صدقت الوعد أيها الخالد أيها الفارس في ميادين الشرف والرجولة يا من كنت رجل دولة، ثابت المبادئ، صادق المواقف، لا هدف لك إلا خدمة الوطن وقائده كانت بصماتك شاهدة عليك، ومآثرك أكبر دليل، فكنت قامة من قامات الوطن، بعيد النظر، سديد الرأي، صادق المشورة، وكانت أفعالك دائمًا تسبق أقوالك.
رحمك الله أيها الفارس، وجزاك الله خير الجزاء عمّا قدمت لوطنك ولجيشك المصطفوي الذي أحببته فأخلصت له العمل، فبادلك منتسبوه حبًا بحب رحمك الله يا شيخ القبيلة وسيدها، أيها الزعيم الخالد في الذاكرة كنت أبًا وأخًا وابنًا بارًا لكل أبناء قبيلة بني صخر، بل لكل الأردنيين، لأن الجهوية والفئوية والعنصرية لم تكن يومًا في قاموس حياتك، ولهذا ترحم عليك الجميع، وكانت جنازتك مهيبة حضرها الأشقاء العرب قبل الأصدقاء والأقارب، حتى إن أهالي دير الزور في سوريا الشقيقة فتحوا لك بيت عزاء، فأنت عروبي المنبت، قومي الهوى.
بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء، لبّى شيخ المشايخ جمال حديثة الخريشا نداء ربه، لتبدأ بعد رحيله ذكرى عطرة تتحدث عن نفسها من خلال أعماله الجليلة التي قدمها لوطنه وأمته وقبيلته، وحزنت عشائر بني صخر عامة حزنًا عميقًا، في كل مناطقها وقراها، بفقدان هذه القامة السياسية والزعيم القبلي، نعم الموت حق، ينتقي الكرام، وكلنا راحلون، وقد رحل سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة والسلام، إلا أن موت الشيخ جمال خسارة في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى رجل بقيمته ليلمّ الشمل ويجمع الكلمة.
لم تكن في حياتي محطة حزن تشبه محطة الفقد على حارس القبيلة والوطن ماذا يمكن أن نقول عن الفقيد، وكيف لأحد أن يملأ الفراغ الذي تركه في الروح وفي نفوس من عرفوه كان رجلًا في حجم وطن، لم يعرف في حياته الجهوية ولا الفئوية ولا العصبية، كان منزله مقصدًا للجميع، من كل المنابت والأصول مبادرًا لنجدة الملهوف والمظلوم، لا يعود من قصده خالي الوفاض لم يعرف الجبن يومًا، ولم يسع وراء منصب أو شهرة أو مال كان كريمًا حد الإسراف، شجاعًا حد الإقدام، وفيًا لأصدقائه، يحترم كلمته ووعوده، لا يدخل في قضية إلا حلّها، ولا في مشكلة إلا وجد لها مخرجًا عاش للناس، فترك في نفوسهم أثرًا لا يمحى بعد رحيله.
وفي وداعه الأخير، كان الحزن يعمّ لواء الموقر، والدموع تنوب عن الكلام، والصمت يلتفّ بالموقف، وفي ظلال سيرته العطرة ستستلهم الأجيال القادمة روح البذل والعطاء، وستتردد مواقفه التي لا تُنسى، وسيكون لاسمه مكان بارز في سفر التاريخ الوطني والقبلي ومجلدات الأيام.
تموت أشجار النخيل واقفة، وأبيت يا أبو حديثة إلا أن ترحل واقفًا، ثابتًا، كما عرفك الجميع، أنت السبّاق في عمل الخير والإصلاح وسداد ذات البين وتضميد الجراح ولمّ الشمل كم من الابتسامات زرعتها في البيوت وبين الأقارب والقبائل، وبفضل تواضعك الجمّ كسبت القلوب جميعها، القريب والغريب، الصغير قبل الكبير، وبرغم شخصيةٍ ضخمة وهالةٍ مؤثرة، كنت تمتلك كاريزما نادرة، وحظيت بمحبة عظيمة واحترام كبير، كنت حاضرًا في كل المناسبات، السعيدة منها والحزينة بصوتك الجهوري، وطلّتك البهية، وابتسامتك العريضة، وكلامك العذب الناجع.
رحمك الله يا أبو حديثة، يا رمز العشيرة والقبيلة وزعيمها، يا من كنت على مسافة واحدة من جميع أبنائها تجمع ولا تفرّق، تسعى إلى جمع الكلمة ما استطعت، وتنأى بنفسك عن صغائر الأمور كنت كبير العشيرة وفارسها الذي اتسع قلبه للجميع رحمك الله أيها الفارس الخالد، وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة ولا نقول إلا ما يرضي الله، إنا لله وإنا إليه راجعون وإنّا على فراقك يا أبو حديثة لمحزونون.