في ظل التغييرات الاقتصادية والاجتماعية السريعة التي يشهدها الأردن والعالم، برزت الحاجة الملحّة لإعداد جيل يمتلك المهارات والمعرفة المالية اللازمة ليكون قادرًا على اتخاذ قرارات رشيدة تؤهله ليس فقط لإدارة شؤونه الحياتية، بل أيضًا للمساهمة بفعالية في بناء اقتصاد وطني قوي ومستدام. ومن هنا، تنبع أهمية إدماج الثقافة المالية في المناهج الدراسية، لتكون جزءًا أساسيًا من البناء المعرفي والمهاري للطلبة.
إن إدخال الثقافة المالية إلى المدارس هو استثمار ذكي في العقول الشابة، التي تمثل مستقبل الأردن. فبدلاً من أن يظل الطالب مجرد متلقٍ للمعرفة التقليدية، أصبح اليوم قادرًا على التفكير في مفاهيم مثل: الادخار، الموازنة، الاستثمار، التخطيط المالي، والتمييز بين الرغبات والاحتياجات، وهي مفاهيم لم تكن تُطرح سابقًا في بيئة الصف المدرسي. والواقع أنني، كمعلم ومتابع لهذه التجربة في مدرسة جميل شاكر الثانوية الشاملة للبنين (الصويفية)، أرى أثر هذه المادة جليًا في طلابي؛ فالطالب اليوم يناقش ويحلل ويقارن، وأحيانًا يقدّم حلولًا إبداعية لقضايا مالية واقعية.
إننا لا ندرّس مادة إضافية فحسب، بل نفتح نوافذ لطلابنا على العالم الحقيقي، فتعليمهم كيف يديرون مصروفهم، وكيف يخططون لمستقبلهم المالي، هو تعليم لحياة كاملة. ونحن عندما نغرس فيهم هذه المفاهيم، نمنحهم أدوات النجاة من أزمات الديون، ونمنحهم قدرة على التمييز واتخاذ القرار بثقة ومسؤولية.
ولأن المدرسة لا تعمل في فراغ، فإن نجاح هذه الخطوة يعتمد بشكل كبير على دور الأسرة والمجتمع. فالبيت هو الامتداد الطبيعي لما يتعلمه الطالب في الصف، ويمكن للأهل أن يعززوا هذه الثقافة من خلال إشراك أبنائهم في قرارات مالية حقيقية – كإعداد ميزانية أسبوعية للبيت، أو التخطيط لمصاريف العيد، أو مقارنة أسعار المنتجات قبل الشراء. كما أن المجتمع المحلي، من مؤسسات وأفراد، مطالب بدعم هذه المبادرات عبر توفير بيئة محفزة تُشجع على التعلم المالي العملي من خلال تنظيم المعارض، والأنشطة التفاعلية، والمسابقات التي تعزز مبدأ العمل والإنتاج.
ويأتي كل ذلك انسجامًا مع رؤية التحديث الاقتصادي 2033، التي تضع على رأس أولوياتها بناء جيل يمتلك مهارات القرن الحادي والعشرين، ومنها الثقافة المالية. فالاقتصاد الحديث لا يقوم فقط على الموارد الطبيعية أو البنى التحتية، بل على الإنسان الواعي، المدرك لواقعه المالي، القادر على اتخاذ قرارات مبنية على تحليل وفهم، لا على العشوائية أو التلقين.
نحن اليوم نعيش لحظة فارقة في تاريخ التعليم، حيث يتحول الصف من مكان لتلقي المعلومات إلى ورشة عمل حقيقية لصناعة قادة المستقبل. وفي كل حصة ثقافة مالية، نزرع في طلابنا بذرة الأمل، لنصنع منهم أفرادًا قادرين على قيادة الاقتصاد الأردني بأدوات الفهم والإبداع والمسؤولية.
وفي الختام، فإن "غرس الثقافة المالية في المدارس ليس مجرد تعليم، بل هو استثمار فعلي في مستقبل أبنائنا وأداء الاقتصاد الوطني على حد سواء". فلنبنِ هذا الجيل معًا، بتعاون المدرسة، والأسرة، والمجتمع، ولنسهم جميعًا في كتابة قصة الأردن الجديد، القوي، والمزدهر.