ليس منا من لا يدرك الأردن يعيش أزمة متجذرة "عنوانها إقصاء الكفاءات وأصحاب الخبرة وإفساح المجال أمام من لا يملكون سوى الألقاب أو العلاقات أو النفوذ"، فتُفرغ المؤسسات والوزارات والدوائر من العقول المبدعة، ويصبح القرار حكرًا على المتسلقين والمتنطعين، وهذا نهج قديم يعيد إنتاج الأزمات عامًا بعد عام
المسؤولية لا تقع على الوزارات وحدها، ففوقها ومن تحتها وعلى يمينها وعلى يسارها صناع القرار الذين يملكون التعيين والتوجيه، ومعهم مجلس النواب الذي من واجبه الرقابة والمساءلة لا الاكتفاء بالتصفيق، وإذا بقيت الأمور على حالها فسنجد أنفسنا أمام أبواب موصدة في قطاعات حيوية وعلى رأسها قطاع المياه الذي يمثل شريان الحياة وأمن الوطن.
قطاع المياه يجسد صورة التخلف الإداري في سلطه سمعي واتخاذ القرار في هذا الوطن، فالخسائر تصل إلى نصف الكميات التي تضخ الى المواطن، والمشاريع الكبرى تُسوّق كحلول نهائية بينما الشبكات تنزف، أما الخبراء فيُقصون ويُستبدلون بوجوه جاءت بالتوارث أو النسب أو المجاملات أو الصداقات، وكأن الولاء أهم من الكفاءة، والنتيجة شبكة هشة ومشاريع تولد ميتة وواقع مائي ينذر بالخطر.
وهذا النهج ينعكس على سائر القطاعات دون استثناء، فالصحة تعاني من الاكتظاظ وهجرة الكفاءات، والاقتصاد يترنح تحت ثقل الدين والحلول الترقيعية، والزراعة تُترك للذبول، والإعلام يُصادر صوته حين يحاول كشف الحقائق، وفي كل مرة تتعمق الأزمة لأن صوت الخبير يُقصى بينما يُستمع إلى صوت من تم تنصيبهم لولاءات وتقاسم ضمن منظومه المصالح .
الخطر الأكبر أن الجائع قد يصبر أيامًا وشهورا ، أما العطشان فلا يصبر يوما، وإذا لم تُفتح الأبواب لأصحاب الفكر، وإذا لم يُستدعَ الخبراء إلى موقع القرار، وإذا لم يُرفع الغطاء عن الإعلام المهني ليكشف الحقائق، فإننا سندخل نفقًا مظلمًا لا يعرف أحد متى تنتهي ظلمته، وعندها لن تنفع الشعارات ولن تجدي البيانات ولن يغفر التاريخ لمن صمّ أذنيه عن صوت الحقيقة
الوطن لا يُبنى بالولاءات ولا بالمجاملات ولا بالشعارات والقرارات السطحية الحمقاء، فإن لم يُغرس العلم وساريته في القلوب فلن يُغرس على أسطح المنازل ولا على بوابات التجارة والأسواق، ومن لا يؤمن بأن الكفاءة هي تاج القرار فإنه يكتب شهادة إفلاس الوطن بيده، ومن يهمش الخبرة يهمش المستقبل كله، والماء ليس إلا المثال الأوضح على ذلك، فلتسمعوا قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم ولا يجدي فيه العزاء