حين يُذكر مصطلح الخدمة العسكرية، يتبادر إلى الذهن فورًا الانضباط والبدلة الميدانية والأوامر الصارمة، غير أنّ ما تخفيه هذه التجربة أعمق بكثير من مجرد تدريبات جسدية أو التزامات يومية. فهي في حقيقتها رحلة تحول تُعيد صياغة شخصية الإنسان، وتنقله من الفردية إلى روح الجماعة، ومن الفوضى إلى النظام، ومن التنظير إلى التجربة الحيّة.
الخدمة العسكرية ليست واجبًا وطنيًا فحسب، بل هي مختبر نفسي واجتماعي تُبنى فيه الإرادة، ويُصقل فيه الوعي، فيدرك الشاب أن قيمة الوقت تُقاس بالثواني لا بالساعات، وأن اتخاذ القرار بدقة هو جوهر الجندية، وأن العزيمة الصلبة قادرة على كسر قيود التعب الجسدي، كلما أضاء الهدف درب المقاتل وأشعل داخله شعلة الانتماء.
إنها المساحة التي تذوب فيها الفوارق الاجتماعية، حيث يقف ابن القرية إلى جانب ابن المدينة، وصاحب الشهادة إلى جوار من لم يكمل تعليمه، الجميع يرتدون اللون ذاته، يهتفون للهتاف نفسه، ويذوبون في معنى واحد هو الوطن.
ولعل أعظم ما تمنحه الجندية، أنها تُعلِّم فن الصبر، وتُكسب القدرة على اتخاذ القرار تحت الضغط، وتُدرِّب على التحمل والثبات. وهي صفات تتجاوز حدود المعسكرات لتنعكس على مختلف ميادين الحياة: في العمل، والدراسة، والعلاقات الإنسانية. وإذا كان البعض يظن أن الخدمة العسكرية تقيّد الحرية، فإنها في جوهرها تفتح أبوابًا جديدة لها؛ حرية الانتصار على الخوف، حرية الانضباط الذاتي، وحرية الاعتزاز بالقدرة على تجاوز المستحيل.
الخدمة العسكرية إذن ليست مجرد التزام زمنـي، بل هي رسالة عميقة يتشرف بها الجندي الأردني، ليتجاوز أثرها سنوات الخدمة إلى عمرٍ كامل، يورثه لأبنائه وأحفاده، قيمًا خالدة في الولاء والفداء والانتماء...