منذ سنوات وأنا أقرأ لبعض الكتبة الذين لا يميزون بين الفاعل والمفعول، ولا يفرّقون بين المرفوع والمجرور. نصوصهم مثل شوارعنا: حفر ومطبات وزحام. ثم فجأة… في ليلة ظلماء، استيقظوا فإذا بهم ينافسون سيبويه في النحو، ويزاحمون نجيب محفوظ في السرد، ويعلنون أنهم ورثة ابن منظور في لسان العرب!
ما الذي جرى؟ هل أتى عليهم وحي؟ هل زارهم ملاك اللغة؟
لا… لقد زارهم الذكاء الاصطناعي، لا يعرف الليل من النهار، ولا يعرف الجوع ولا الغربة ولا الدموع. آلةٌ تكتب لهم، فيضعون أسماءهم فوق النصوص، كأنهم أمضوا العمر بين المعاجم والمخطوطات!
يا سادة… ألا تستحون؟!
ألم يَأْنِ لهؤلاء أن يخجلوا من أنفسهم؟ أيُّ ضميرٍ في أن يجعل المرء آلةً تكتب عنه ثم يخرج مزهوًّا بالنص كأنه وليد أفكاره؟! هذا ليس إبداعًا… هذا تزويرٌ أدبي، وسقطة أخلاقية.
القارئ البسيط يعرف من أول سطر أن الفقرات مكرّرة، كأنه نسخة طبق الأصل من مقالات تم إنشاؤها بالذكاء الاصطناعي: مقدمة رنانة، جمل متشابهة، استعارات عجز عنها علماء اللغة.
ولمن أرد الدليل: فهناك برامج تكشف النصوص المصطنعة، فيخرج لنا التقرير صادمًا: نسبة الكتابة بالذكاء الاصطناعي تفوق 95%. نعم… 95%! أي أنّ الكاتب "العبقري" لم يتبرّع إلا بخمسة بالمئة من نفسه: وضع اسمه في أول المقال أو آخره.
ليتهم يفهمون أن جملة واحدة صادقة، ولو مكسورة الإعراب، أشرف من ألف مقالٍ مصقولٍ كُتب بالذكاء الاصطناعي. فالمقال الحقيقي يخرج من الجهد في التفكير، ومن العرق، ومن قهر الفقر، ومن الغربة، ومن الصراع مع كلمةٍ تأبى أن تأتي. أما نصوص الذكاء الاصطناعي فهي كلمات بلا روح، ولا معنى لها.
فليَبقَ من يشاء من كتبة الذكاء الاصطناعي عبيدًا لتلك الآلة التي تكتب لهم، ولتبقَ مقالاتكم شهاداتِ زورٍ على عقولكم. أمّا الكتابة الحقيقية… فلن يكتبها إلا قلب يعرف كيف ينزف، ويدٌ تتعب وهي تبحث عن كلمةٍ بين قواميس اللغة.