تمثل رؤية "إسرائيل الكبرى" أحد أبرز تصورات النخب الصهيونية التي تتجاوز حدود الدولة القائمة إلى بسط الهيمنة الإسرائيلية على الفضاء الإقليمي العربي والإسلامي؛ بهدف ضمان التفوق الاستراتيجي وتعزيزه على المدى الطويل. إلا أن الواقع الجيوسياسي يُظهر أنَّ هذه الرؤية تصطدم بعوائق بنيوية وسياسية تجعلها أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة، وبخاصة في ظل رفض المحيط العربي والإسلامي للاحتلال والتوسع، وتمسكه بالحقوق الفلسطينية.
إنّ هذه الرؤية، وبالرغم مما تمتلكه إسرائيل من عناصر القوة الصلبة والدعم الدولي، تظل رهينة محددات جيوسياسية وديمغرافية وهوياتية تعيق تحقيقها، والتي يمكنها توضيحها بالاستعانة بمقاربتين أساسيتين في العلاقات الدولية، هما: الواقعية السياسية التي تركز على القوة والمصلحة، والبنائية التي تسلط الضوء على دور الهوية والثقافة في تشكيل السلوك الدولي.
فوفقا للمقاربة الواقعية، تسعى الدول إلى تعظيم قوتها ضمن نظام دولي فوضوي لضمان أمنها. وبالنظر إلى إسرائيل، نجد أن مشروعها التوسعي يستند إلى منطق القوة والردع. غير أنَّ الجغرافيا والديموغرافيا تفرضان قيودا صلبة على تحقيق هذا الهدف؛ إذ تقع إسرائيل في وسط بيئة إقليمية معادية تضم أكثر من 400 مليون عربي وحوالي 2 مليار مسلم، في حين لا يتجاوز عدد سكّان إسرائيل 10 ملايين، وهو ما يجعل ميزان القوى بعيدا عن تحقيق هيمنة مطلقة. وإضافة إلى ذلك، فإن ضيق العمق الاستراتيجي يجعل من إسرائيل عرضة لأي تهديد عسكري واسع النطاق، وهو ما يدفعها دوما إلى الاعتماد على تحالفات خارجية لتعويض ضعفها البنيوي، وهو سلوك متوقع في إطار النظرية الواقعية.
أمّا فيما يتعلق بالنظرية البنائية، فترى أنّ السلوك الدولي لا يتحدد وفقا للقوة المادية فحسب، بل أيضا من خلال الهويات والمعايير الاجتماعية. وفي هذا السياق، تمثل جامعة الدول العربية واتفاقية الدفاع العربي المشترك لعام 1950 أكثر من مجرد ترتيبات أمنية؛ فهي تشكّل تجسيدا لهوية جماعية عربية مشتركة تقوم على رفض الهيمنة الإسرائيلية والدفاع عن فلسطين باعتبارها قضية مركزية. وعلى الرغم من التباينات السياسية بين الدول العربية، فإن بقاء هذه الأطر المؤسسية يبعث برسالة هوية مقاومة للهيمنة الإسرائيلية، وهو ما يعزز الفجوة بين الطموح الإسرائيلي والواقع الإقليمي. فالمقاومة لا تنبع فقط من القدرات العسكرية، بل أيضاً من البنية المعيارية والثقافية التي تجعل التطبيع أو القبول بالتفوق الإسرائيلي محدودا على المستوى الشعبي.
وإذا ما تجاوزنا الإطار العربي نحو الفضاء الإسلامي، نجد أنَّ منظمة التعاون الإسلامي التي تضم في عضويتها 57 دولة وإن بدت محدودة الفاعلية عسكريا، إلّا أنَّ قيمتها البنيوية تتجسد في قدرتها على خلق إجماع سياسي ورمزي يمنح القضية الفلسطينية بعدا أمميا، ويجعل أيّ محاولة إسرائيلية لفرض أي مشروع توسعي في الإقليم تصطدم بجدار من الهوية الإسلامية المشتركة. فهذا البعد الرمزي وفقا للبنائية يعيد إنتاج خطاب الرفض للتوسع الإسرائيلي، ما يجعل الصراع غير قابل للحسم عبر الأدوات العسكرية وحدها.
وبالنظر إلى محاولات إسرائيل لتكريس تفوقها الاستراتيجي، فإنَّ هذه السياسات من منظور الواقعية، تثير مخاوف أمنية لدى الفاعلين الإقليميين، فتدفعهم إلى اتباع سياسات موازنة القوى سواء عبر التحالفات أو دعم حركات المقاومة. أمّا من منظور البنائية، فتؤدي هذه السياسات إلى ترسيخ الهوية الصراعية، وإعادة إنتاج بيئة من العداء المستمر، ما يجعل المشروع الإسرائيلي يحقق نتائج عكسية، ويجعل من إسرائيل دولة منبوذة ومعزولة في محيطها الإقليمي.
خلاصة القول، لا تعدو "رؤية إسرائيل الكبرى" عن كونها وهمًا غير قابل للتحقيق، فالحقائق تؤكد أن البيئة الإقليمية والدولية لم ولن تسمح بأيّ مشروع توسعي يقوم على انتهاك سيادة الدول بالجملة، وإنكار حقوق الشعوب، واستباحة الأراضي، والضرب بالمعاهدات والمواثيق الدولية عرض الحائط، لا سيّما في ظل التجاذبات على مستوى النظام الدولي بين القوى الكبرى، كما أنًّ التاريخ السياسي يثبت أن الاحتلال والأمن لا يجتمعان، وأن التعايش الحقيقي يتحقق فقط بالاعتراف بالحقوق المشروعة، وعلى رأسها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وهكذا، تظل إسرائيل محدودة بأوهامها التوسعية، بينما السلام العادل يظل السبيل الوحيد لتحقيق استقرار دائم في المنطقة...