"وهمٌ قديم يتجدد في عقول المتطرفين، لكن غزة اليوم تحطّمه كما حطّمه التاريخ من قبل."
في ظل تنامي موجة التعاطف العالمي مع ما يتعرض له أهل غزة من إبادة وتجويع على يد آلة الحرب الإسرائيلية، ومع تزايد مشاهد القتل والتصفية بحق الصحفيين الذين لم يفعلوا سوى أن ينقلوا للعالم حقيقة المعاناة، يجد الكيان نفسه في زاوية ضيقة تضغط فيها حتى عائلات أسراه في غزة. وأمام هذه الأزمات، اختار رئيس الوزراء وبعض أركان حكومته المتطرفة الهروب إلى الأمام، مروجين لوهم "الدولة الكبرى" الممتدة من النيل إلى الفرات، وكأن الجغرافيا تنتظرهم فارغة بلا بشر، وكأن التاريخ لم يُكتب، وكأن الحاضر بلا شهود.
لكنها أوهام لا تصمد أمام حقائق الأرض والإنسان. فمن يظن أن الأرض صحراء بلا حياة، سيفاجأ أن الشجر والحجر قد ينطقان في وجهه. ومن يعتقد أن الشعوب تسلّم رقابها للذبح، يكتشف أن شعارها باقٍ: الموت ولا الدنية.
لقد علّمتنا التجارب أن الغطرسة قصيرة العمر، وأن من يتوهم السيطرة المطلقة سرعان ما يسقط في حفرة عنجهيته. فهذه الأرض لم تكن يوماً فراغاً ينتظر المحتل، بل كانت وما تزال ميداناً للكرامة، تفيض برجال ونساء يكتبون بدمائهم رسالة مفادها أن الحرية أغلى من الحياة نفسها، وأن من يعبث بخرائط الأساطير سيجد نفسه في مواجهة تاريخ لا يرحم، وشعوب لا تنكسر.
إن ما يروج له قادة الاحتلال ليس سوى سرابٍ في صحراء الوهم، فالتاريخ لم يعرف مشروعاً استعماريّاً كتب له البقاء مهما طال وإن كل خرائطهم ستبقى حبراً على ورق وفي عقولهم الخَرِبة.
وإن العالم الذي بدأ يسمع صوت غزة ويرى دماء أبنائها وأجسامهم النحيلة من آثار التجويع، لم يعد قادراً على إنكار الحقيقة: أن ما يجري ليس حرباً على أرض ضيقة، بل مواجهة بين مشروع باطل يقوم على الأسطورة والغطرسة، وبين إرادة شعوب تصر على الحياة الكريمة. وبين الوهم والحقيقة، لن يكون النصر إلا لمن آمن أن الأرض حق، وأن الكرامة لا تُشترى ولا تُباع.