في قراءة التاريخ، هناك دائمًا تلك الخيوط الرفيعة التي تربط الماضي بالحاضر، وتحمل في طياتها إشارات المستقبل. بيتر تورشين، المؤرخ الذي يمزج الأرقام بالوقائع، والرياضيات بالحركة السياسية، يرى أن الدول – كالكائنات الحية – تولد، تنمو، تزدهر، تشبع، ثم تبدأ رحلة التراجع والانكسار. هي دورة لا يوقفها السلاح، ولا يحميها الغرور، ولا يطيل عمرها وهم القوة. وعندما نضع إسرائيل تحت عدسة هذا النموذج، فإننا نجد أن معظم المؤشرات تشير إلى أنها دخلت بالفعل مرحلة الهبوط.
هناك أولًا ضغط الموارد. في مساحة جغرافية ضيقة، بموارد محدودة، تتصاعد أعداد السكان بوتيرة أسرع مما تحتمل الأرض. الحريديم والفلسطينيون داخل الخط الأخضر يتزايدون بنسبة تفوق قدرة الدولة على استيعابهم اقتصاديًا واجتماعيًا. أزمة سكن خانقة، أسعار معيشة تلتهم دخول الطبقة الوسطى، وكل ذلك يتحول إلى حالة احتقان اجتماعي تُترجم بدورها إلى صراع هوياتي قديم بين اليهود الشرقيين – الذين يرون أنفسهم على هامش المشهد منذ قيام الدولة – واليهود الغربيين الذين ما زالوا يمسكون بمفاصل المال والإعلام والسياسة.
ثم هناك فائض النخب. الساحة السياسية الإسرائيلية مزدحمة بطامحين يتنافسون بلا هوادة، حتى داخل المعسكر الواحد. الخلافات لم تعد تُدار خلف الأبواب المغلقة، بل صارت مشاهد يومية على الشاشات وفي الشوارع. ومعركة السيطرة على القضاء فجّرت واحدًا من أكبر أشكال العصيان في تاريخ الدولة العبرية: آلاف الضباط وجنود الاحتياط، وبينهم طيارون من سلاح الجو، أعلنوا رفضهم الخدمة إذا مضت الحكومة في تعديلات قضائية تمس استقلال المحكمة العليا. كان ذلك زلزالًا في عمق المؤسسة التي طالما اعتُبرت العمود الفقري للدولة.
أما على مستوى بنية الدولة، فالهشاشة باتت ملموسة. خمس انتخابات خلال أربع سنوات، احتجاجات مليونية تهز المدن الكبرى، انقسام عميق حول هوية الدولة ووجهتها، واعتماد اقتصادي وأمني شبه كامل على الولايات المتحدة، وهو اعتماد يمكن أن يتأثر في أي لحظة إذا تغيّرت أولويات الحليف الأكبر في واشنطن.
وفي قلب هذا المشهد المأزوم، جاءت حرب غزة الأخيرة لتكشف عورات المنظومة الأمنية والعسكرية. الحرب استنزفت الاقتصاد، وأطلقت سيلاً من الانتقادات في الداخل والخارج، وأعادت طرح السؤال الذي يتهرب منه الجميع: هل تستطيع إسرائيل أن تدير حربًا طويلة على أكثر من جبهة؟
ومع ذلك، فإن نتنياهو ماضٍ في أطماع توسعية تلمودية معلنة، من ضم أراضٍ في الضفة الغربية إلى الحلم القديم بـ"إسرائيل الكبرى" الممتدة على حساب الأرض الفلسطينية والعربية، متحديًا القانون الدولي، ومتجاهلًا تحولات الرأي العام العالمي.
هذه الأطماع ليست مجرد رؤية سياسية، بل هي في الحقيقة عبء إضافي على جسد الدولة المنهك، تدفعه نحو عزلة أعمق، وتفتح عليه جبهات جديدة، وتزيد احتمالات انزلاقه إلى حرب إقليمية لا يملك القدرة على خوضها.
ومع تصاعد التمرد داخل الجيش، وتفاقم الانقسام بين شرقي وغربي، وديني وعلماني، وعربي ويهودي، فإن ملامح "نقطة الانكسار" في نموذج تورشين تقترب بخطوات محسوبة.
النموذج يؤكد أن الانكسار بات وشيكًا، إذ بلغت مؤشرات التراجع ذروتها. وبالنظر إلى ما يجري حاليًا في إسرائيل، فإن هذه المؤشرات قد اكتملت تقريبًا، لتفتح نافذة زوال الدولة في أي وقت، خاصة إذا تزامن الانفجار الداخلي مع صدمة خارجية حاسمة. والتاريخ، كما يقول تورشين، لا يعرف المجاملة؛ فالإمبراطوريات التي ظنت نفسها أبدية انهارت تحت ثقل حقائق الجغرافيا والاقتصاد والديموغرافيا، وإسرائيل، مهما رفعت رايات القوة، ليست استثناءً من هذه السنن.