عيسى المحادين ليس مذيع يجلس خلف المايكروفون ليسرد خبراً أو يدير حواراً تقليدياً، بل كان أشبه بمقاتل ناعم يحمل في صوته قضية، وفي أسئلته مشروعاً وطنياً صادقاً لا يعرف المهادنة ولا يُجيد التلميع. وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، استطاع أن يرسّخ اسمه كواحد من أهم الأصوات التي عرفها الأثير الأردني، صوتًا جريئًا، عارفًا، ذا حضور متّزن وفكر حواريّ عميق.
وُلد عيسى حماد المحادين في محافظة الزرقاء، وعاش فيها شبابه، مستلهماً من نبض المدينة العمّالية وفضائها الشعبي حسّه الصادق والبسيط الذي لازمه طيلة مسيرته. التحق مبكرًا بالإعلام الرسمي، وتدرّج في أقسام الإذاعة الأردنية حتى غدا أحد أعمدتها. عرف كيف يطوّر أدواته، فلم يركن إلى الصوت الجميل فحسب، بل صقل مهاراته بالاطلاع والدراسة وفهم المجتمع.
دخل عيسى المحادين الإذاعة في وقت كانت الكلمة فيه محسوبة، والمسؤولية مضاعفة، فحمل على عاتقه همّ المواطن، وجعل من الميكروفون منبراً حقيقياً لمساءلة المسؤول، لا تجميل الصورة.
لم يكن من مذيعي الترفيه أو "العناوين"، بل من صناع الحوار الجاد، ومن المؤسسين لمدرسة إذاعية ترى في الإعلام وظيفة رقابية وتنويرية. جمع بين الحزم والهدوء، وبين النبرة الصافية واللغة الدقيقة، فكان محاوراً يُحسب له الحساب حتى من أصحاب القرار.
على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، قدّم عيسى المحادين مجموعة من البرامج التي أصبحت علامات بارزة في تاريخ الإذاعة الأردنية، منها:
البث المباشر
برنامج تفاعلي يومي، كان يستقبل اتصالات المواطنين ويطرح قضاياهم على الهواء مباشرةً، بحضور أو تعقيب من المسؤولين المعنيين.
تميّز البرنامج بطرحه الجريء للقضايا الخدمية والمعيشية، وكان عيسى المحادين يتعامل مع كل متصل بجدية واحترام، ويواجه المسؤول بلغة الحجة، لا المجاملة.
قرار وحوار
برنامج حواري سياسي واقتصادي، ناقش قرارات الحكومة ومشاريع القوانين، واستضاف وزراء ونوابًا وخبراء.
تميّز بالتحليل العميق والمناقشة الشفافة، وساهم في رفع مستوى الوعي الشعبي بقضايا السياسات العامة.
البلديات
برنامج متخصص بقضايا الحكم المحلي والإدارة البلدية، ركّز على الخدمات، البنية التحتية، ومشاكل المدن والقرى.
كان صوتاً مهمًا للبلديات الصغيرة التي لا تصل عادةً إلى المنابر الإعلامية الكبرى.
مع الطلبة
برنامج شبابي يلامس واقع الجامعات الأردنية، يناقش مشاكل الطلبة، الرسوم، الحياة الجامعية، والمشاركة السياسية.
أفسح فيه المجال للطلبة أنفسهم ليكونوا شركاء في الحوار، ما جعله برنامجًا حيًّا ونابضًا.
قضايا على الهواء
برنامج إذاعي تناول قضايا اجتماعية واقتصادية متنوعة، وفتح النقاش حولها بمشاركة الجمهور.
لم يكتفِ المحادين بعمله كمقدّم برامج، بل شارك في تأسيس جمعية المذيعين الأردنيين، وكان نائبًا لرئيسها، وعضوًا في مجلس إدارتها لعدة دورات.
ساهم في رفع سقف النقاش داخل المؤسسة الرسمية، وفي الدفاع عن حقوق زملائه المذيعين، وتطوير أخلاقيات المهنة.
عُرف بأسلوبه الحاد حين يستدعي الموقف ذلك، لكنه لم يكن صداميًا بلا سبب. كان هادئاً حين يتطلب الحوار ذلك، وغاضبًا إذا ما شعر بأن الحق يُسلب.
جمع بين ذاكرة قوية للأرقام والتواريخ، وبين حسٍّ شعبيٍّ متواضع، جعله قريبًا من كل مستمع، من عمّال المياومة حتى أساتذة الجامعات.
قال عنه زميله الإعلامي مأمون شرف الدين:
"عيسى المحادين لم يكن يبحث عن الصوت الجميل أو الإطراء، بل كان يبحث عن إجابة حقيقية تحترم عقل المواطن".
في الثامن من حزيران 2025، ودّع الأردن أحد أنقى أصواته الإعلامية.
رحل عيسى المحادين فجراً في الزرقاء، دون ضجيج، كما عاش... لكن بقي أثره واضحاً في أرشيف الإذاعة، وفي ذاكرة من كان يُصغي له صباحًا، بحثًا عن الحقيقة.
ربّى المحادين أجيالاً من الإعلاميين الشباب، ليس بالمحاضرات، بل بالمثال الحي.
وكان عنوانًا للنزاهة والصلابة والرقي المهني. ترك خلفه سجلاً إذاعيًا لا يُقاس بعدد الساعات أو البرامج، بل بثقة الناس التي لم تهتز، وبالاحترام الذي بقي حتى بعد صمته الأخير.