مقالي هذا ، له من الخصوصية و الرمزية مستحقة ،كون الحديث فيه عن جناح سياسي عريق ، اخطأ و أصاب ، له صولات و جولات ، صعودا و كبوات ، لكنه كان الأقرب للناس في اللغة مع اقتسام احوال طبقات الشعب ، و حمل هموم الفقراء والمهمشين، صدح بصوت الطبقة العمالية و المهنية على منابر نقاباتها ، في الشارع ،داخل المصانع و حقول المزارعين ، مدافعًا عن الاشتراكية الاجتماعية ، و إقامة التعاونيات، مناديًا بإعمال العقل والعدالة في توزيع الثروات .
جناح لطالما كان في الصفوف الأولى يدافع عن قضايا الأمة الكبرى دون تردد أو مساومة و على رأسها القضية الفلسطينية، لا يعرف التراجع عن الثوابت ، لغته الحوارية علامة فارقة لهويته و لونه السياسي و ممارسة ثقافة التعددية الديمقراطية حتى الديكتاتورية منها .
الحديث هنا عن اليسار العربي الأممي، الذي لعب دورا مبكرًا و فاعلًا في الحياة السياسية الأردنية ، لكنه، رغم إرثه النضالي، لم يرسخ نموذجًا ليسار اردني ، بصبغة خاصة تعير التركيز على مشاريع الدولة الوطنية الأردنية سياسيا وثقافيا مزيدا من الاهتمام ، أو بما يتوافق مع واقع المجتمع و خصوصية ثقافته على مختلف مستوياتها .
هذا القصور لم يكن جراء العجز الفكري انما هي تداعيات الحالة السياسية و تراكماتها و هذه الإضاءة من باب الإنصاف لجميع الأطراف.
لعل ذلك يعود لأسباب متعددة:
-تباين الخلفيات المرجعية الفكرية ما بين السوفياتي و القومي و الانقسام العالمي إلى معسكرين شرقي وغربي ، أثناء الحرب الباردة و صناعة خط فكري مناهض له فكريا و سياسيا .
-مركزية القضية الفلسطينية للاردن و أحداثها كان شغل اليسار الشاغل و دافعه نحو صب جهود قواه تجاهها، و تجلّت رمزيتها في أبهى صورها عندما فاز يعقوب زيادين (طبيب الفقراء ) ابن الكرك عن مقعد القدس وسليمان النابلسي ابن نابلس عن السلط في التمثيل النيابي لبرلمان الوحدة .
-غياب مشروع عربي يساري موحّد ، أدى إلى تشتت القوى و التبعية بين عواصم المرجعية التي تنافست على فرض الاستيلاء على حق الوصاية على القضية الفلسطينية.
كلها اسباب أوجدت يسار اردني أممي ثوري هجين أفرز خليطا متأرجحا بين طبقات برجوازية تأثرت بسلوك نفوذ السلطة التي وصلت لها ، وقواعد شعبية فقيرة ، تستدعى الروح الرفاقية التضامنية لها فقط في مواسم الاستحقاقات و ما زالت تلك الطبقة تعاني و تنتظر تمثيلا حقيقيا ، يلبي طموحاتها و احتياجاتها .
الامس ليس اليوم و لن يكون غدا ، لذا آن الأوان لليسار السياسي الأردني أن يتجدد.
لا بد له أن يتحرر من شرنقة الماضي و أطياف الرمزية الاحفورية الكلاسيكية، التي باتت لا تواكب المرحلة.
يسار مواكب لفكر تقدمي عصري، برامجي، ديمقراطي، قادر على قراءة التحولات و مشاركة المقترحات لإيجاد حلول بعيدا عن الشعارات ، والإجابة بوضوح و واقعية على تساؤلات الناس واحتياجاتهم التي ينحصر أغلبها في مطالب تحسين الأوضاع المعيشية .
السؤال المركزي التالي:
هل يستطيع اليسار الأردني إعادة صناعة نفسه و تشكيل ائتلاف يوحد صفوفه، و يتبنى برامجا واضحة المعالم؟
هل يجرؤ على كسر الجمود و تجاوز نمط الجدلية القديمة التي اكل عليها الدهر و شرب ، ليخوض بدلًا منها في التجربة والنتائج؟
لدينا اليوم فرصة حقيقية لاستعادة ثقة الشارع بالحركة الحزبية عبر يسار وطني تقدمي ديمقراطي جديد، يقدم نفسه على أنه تيار ثالث ، يوفق ما بين فلسفة الاشتراكية الديمقراطية وآليات سوق الاقتصاد الاجتماعي و الرأسمالية الليبرالية داخل مساحة أوسع من المنافسة الإيجابية لأجل التخفيف من ضغوط ادوات مؤسسات النقد الدولي وخفض المديونية .
نحتاج إلى هذا النموذج الحزبي البرامجي القادر على توفير البنية التحتية الأساسية للجميع وفق معايير العدالة الاجتماعية في مجالات الخدمات الاساسية كالصحة ، التعليم و النقل العام ، الطاقة ، الاستثمار .
الهدف إعادة بناء طبقة وسطى مهنية و عمالية فاعلة أكثر ، مشاركة بشكل أوسع في التمثيل السياسي و الاقتصادي ، كونها الطبقة الأساسية داخل المجتمع ، و رافعة للاقتصاد الوطني ، بالتوازي اعطاء رأس المال الوطني الأولوية في الاستثمارات و تشجيعه عبر توفير حزم من الحوافز و التسهيلات التي تساعده على الازدهار ، وفق معايير من الرقابة الحكومية تحكم و تنظم عمله بما يحقق العدالة و فرص المساواة و منع الاحتكار ، اذا تترسخ القناعة اليوم أن القطاع الخاص هو بوابة الحل للحد من أرقام البطالة و خلق فرص العمل و التشغيل .
فعليا نحن بحاجة إلى اشتباك برامجي ذكي فعلي مع الملفات ، ينطلق من أولويات الناس، ويقترح حلولًا واقعية قابلة للتنفيذ ، بعيدا عن الاسراف في الغوص داخل أجواء المؤتمرات ، و مخرجات الندوات ، التي لن تنتج سوى مزيد من الدوران حول ذات النمطية من العقلية السائدة و لا جديد أو تجديد.
خلاصة القول :
صناعة نموذج يساري وطني تقدمي برامجي أردني جديد، يمكنه الدمج بين التخطيط و التطبيق العملي ، و المزج بين التجديد والموروث
و القدرة على التحديث و مشاركة الناس عن قرب همومهم الحالية ، هو ما يلبي تطلعاتهم المستقبلية لوطن اردني قوي ، محافظ على ثوابته ، اقتصاده مزدهر، مواطنه أحواله افضل ، عزيزا كريما آمنا مطمئنا مستقرا.