كنا في بداياتنا، نحمل في دفاترنا بياضًا كثيرًا، وفي قلوبنا توقًا لفهم اللغة التي نحبها، لكن نجهل أبوابها. في مساق "الصرف العربي 1"، كنا نعتقد ككثير من المبتدئين – أنه جافّ، معقد، مليء بالتحويلات والضوابط. لكنّ حضور الدكتورة إيناس الخلايلة إلى القاعة غيّر هذا التصور.
لم تكن تلقّن القاعدة، بل كانت تحييها. جعلتنا ندرك أن الصرف ليس ترفًا لغويًا، بل هو العصب الذي تنتظم عليه اللغة، ومن دونه لا يستقيم بيان ولا يُضبط معنى. بأسلوبها البسيط والعميق، كانت تقرّب المثال إلى الذهن، وتزرع في كل واحد منّا حبّ التفكر في أصل الكلمة، لا حفظ شكلها فقط.
كأنها كانت تقول لنا: «أحبّوا اللغة لتُحبّكم»، وكان هذا أول درس تعلّمته منها دون أن تكتبه على السبورة.
قلبٌ يُدرّس قبل القلم
لم تكن الدكتورة إيناس مجرّد أستاذة. كانت أمًا تربّت على الكلمة الطيبة، وامرأة علم تزيّن معرفتها برقيّ التعامل. ما زلت أذكر كيف كانت تسأل عن الطلبة الغائبين، وتتقصّى أحوالهم دون أن تُشعر أحدًا بالإحراج، وكأنها تقول لكل طالب: "أنت مهم.. أنت مرئي.. أنت قادر".
في ملامحها تجد الحزم الذي يحفّز، لا الذي يخيف، وفي صوتها دفء الأمس ووعي المعلم. كانت تعيد الشرح بلا ملل، وتستمع بإنصات لمن يسأل، وتمنح الوقت لمن يتعثر، وتمدّ يدها لمن يحاول.
اللقاء الثاني: اللسانيات.. لغة العلم وروح الواقع
بعد ثلاث سنوات، عدنا والتقينا. لكن هذه المرة في ميدان مختلف: "اللسانيات". مساق مليء بالمفاهيم، والمصطلحات، والنظريات. قد يبدو للبعض معقّدًا، لكنه في يد الدكتورة إيناس تحوّل إلى حوار حيّ بين اللغة والواقع.
بسطت لنا مفاهيم كانت تبدو غريبة، مثل البنية العميقة والبنية السطحية، السياق، والمكون الصوتي والدلالي.. وقرّبت علم اللسانيات من عقولنا عبر أمثلة مألوفة من حياتنا اليومية. ربطت النظريات بالتجربة، والدرس بالعالم.
ولأول مرة فهمت أن اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل هي نافذة لفهم الإنسان والمجتمع، وهي خلاصة التاريخ والثقافة.
على مقربة من الختام.. تبقى الذكرى شاهدة
في فصلي الأخير قبل التخرج، كنت أعود بذاكرتي إلى محطاتي الجامعية، فأجد حضور الدكتورة إيناس في أول الفصل وآخره. كأنها كانت تسلّمني مفاتيح البداية، وتودّعني على أعتاب النهاية.
لم يكن وجودها عابرًا، بل مؤثرًا في مسيرتي الأكاديمية والإنسانية. منحتني الثقة في ذاتي، وأضاءت لي دروب الفهم، وكانت نموذجًا للمربي الصادق، والأكاديمي النبيل، والإنسانة التي يُفتخر بها.
ختم الوفاء:
إلى الدكتورة إيناس الخلايلة،
شكرًا لكِ لأنك كنتِ أكثر من معلّمة. كنتِ حاضرةً بعلمك وخلقك، وبصمتك ستبقى في ذاكرتي، ومسيرتي القادمة.