حين تُذكر الرجولةُ في أبهى صورها، يُذكر الفريق اول الركن خالد جميل الصرايرة، وحين نبحث في تاريخ الوطن عن القادة الذين مرّوا كنسمة عزّ لا تُنسى، يقف اسم الباشا خالد شامخًا، لا تزحزحه الأيام، ولا تنال من أثره السنون.
نشتاق إليك يا باشا... نشتاق لنخوتك التي كانت تجيب نداء كل أردني دون سؤال عن جهة أو هوية، نشتاق إلى زمنك المجبول بالمروءة والعدل، إلى هيبتك التي ما كانت تخيف، بل كانت تؤمّن، وإلى صوتك الحنون الحازم الذي لا يعلو إلا لينصر حقًا أو يرفع مظلومًا.
كنت قائدًا لا يشبه إلا الكبار من الرجال، وطنيًّا حدّ النخاع، حازمًا في الحق، رحيمًا في العدل. كنت القريب من الجندي، والسند للمتقاعد، والذراع الأيمن لكل من أخلص للوطن، تُصغي وتبادر، تُنفّذ لا تُؤجّل، وتُربّي دون أن تُقصي أحدًا.
يروي من خدم تحت قيادتك في جناح مؤتة العسكري أنك لم تكن قائدًا بزيّ رسمي فقط، بل أبًا يتفقد أبناءه، يستأجر الحافلات على نفقته لينقل الجنود والتلاميذ، ويقف عند تفاصيلهم اليومية. لم تكن ترى الملفات بعيون بيروقراطية، بل بعيون الإنسان الذي يُقدّر الجهد، ويحترم التعب، ويحتضن أبناءه.
في أم قيس، يوم كنا ننتظر قدوم جلالة القائد الأعلى، التفتّ نحونا تروي التاريخ كما لو كان يسكنك، تحدثت عن الناصرة وطبريا وكهف عيسى عليه السلام كأنك تؤذن في وجدان الجغرافيا، تؤكد أننا نقف على أرض رسالات، وأن الانتماء ليس شعارًا بل عهد لا ينكسر.
وكنت تكررها بلهجتك الكركيّة الصادقة:
"سيدنا وصّاني عليكم"،
كلمة ما زالت تدوي في ذاكرتنا، لأن من قالها كان يحمل من الصدق أكثر مما تحمله الخطب، ومن الوفاء ما يجعل من الوداع جرحًا لا يلتئم.
لم تكن قائدًا يختبئ خلف المكاتب، بل من أولئك الذين يشبهون الميدان، وينتمون له. كنت رمزًا لزمن الرجال الكبار، للبساطة التي تسكنها الهيبة، وللعطاء الذي لا ينتظر مديحًا.
قال لي ذات يوم: "إنت مثل أولادنا، وحقك واجب علينا".
قالها بثبات القلب الكبير، فشعرت يومها أن الحياة تنصف، وأن الوطن ما زال بخير طالما فيه أمثالك.
آمنت بأن الولاء لا يُقاس بالشعارات، بل بترجمة رؤى جلالة الملك عبدالله الثاني، حفظه الله، إلى أفعال تحترم الجندي وتحتضنه. رأيناك تبني للنفس قبل البناء المادي: نوادٍ، ومساجد، وصالات تليق بالعسكري الأردني، ومشاريع تنقل فيها الجندية من وظيفة إلى كرامة يومية.
حتى الحافلات العسكرية، لم تكن عندك وسيلة نقل، بل رسائل ثقة وأمان، تُشعر الجندي أن المؤسسة لا تكتفي بمطالبته بالعطاء، بل تعطيه أيضًا دفء الوطن.
لم تكن تُحبّ أن يُهمّش الجندي، أو تُغفل حاجته، أو يُدار الجيش من برجٍ عاجي. كنت ترى في البندقية عهدًا، وفي البزة العسكرية شرفًا، وفي كل جندي روحًا تستحقّ أن تُصان.
أيها الباشا، يا ابن الكرك الباسلة، نم قرير العين، فقد كنت لنا الأب والقدوة، وكنت للأردن قلبًا نابضًا لا يتوقف عن الحب والعطاء. ستبقى حيًّا فينا، في قصص الجنود، في روايات المعسكرات، في المجالس التي تحفظ اسمك بكل فخر.
نترحم عليك، ونشهد أنك كنت سليل خالد بن الوليد وأبو عبيدة، قائدًا لا يُنسى، ورجلًا لا يتكرر.
رحمك الله يا أبا مهند، وجعل ذكرك نورًا لا يغيب في سماء هذا الوطن.