تُراكم غزة يومًا بعد يوم أوجاعها المتجددة ، تُصغي لصوت المفاوضات البعيد كأنّه رجع صدى من نفق بلا ضوء ،في هذه اللحظة الدقيقة، وبين ركام البيوت المنهارة وأسرّة المستشفيات المكتظة بأطفال منهكين من الحرب، لا يزال المسار التفاوضي بين حماس وإسرائيل يراوح مكانه، تعيقه ثلاث عقدٍ أساسية كشف عنها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان فيما يبدو انه يجري وراء الكواليس ..
الحديث التركي لم يكن مجرّد تصريح سياسي عابر، بل خريطة مبسّطة لأسباب التأخر في وقف نزيف الدم، وباختصار أوضح فيدان أن العقدة الأولى تتعلّق بكيفية توزيع المساعدات الإنسانية في غزة، تلك المساعدات التي أصبحت شريان الحياة الأخير لسكان باتوا على شفا المجاعة فمن جهتها تطالب حماس بأن تتولّى الأمم المتحدة هذه المهمة، لكونها جهة دولية ذات مصداقية وتملك آليات حيادية، في محاولة لمنع الكيان الصهيوني من التحكم في الطعام والدواء، والتي بدورها ترفض ذلك، متمسكة بأن تكون لها اليد العليا حتى في مسألة التحكم بالمساعدات لتبقى أسلحة الحرب التي تقاتل بها .
أما النقطة الخلافية الثانية بحسب فيدان، فتخصّ انسحاب القوات البرية للكيان الصهيوني من القطاع، وتحديد أماكن تموضعها بعد وقف إطلاق النار، الانسحاب الكامل هو مطلب جوهري لحماس، فهو بالنسبة لها ليس مجرد ترتيبات ميدانية بل ضمانة أساسية لأي استقرار مقبل، في المقابل، تبدو إسرائيل مترددة، تُناور بين الانسحاب والتجميد، في تكرار لأسلوبها المعروف بإبقاء خيوط التهديد مشدودة حتى في لحظات التهدئة.
وتتجلى ثالثة هذه العقد، كما وصفها فيدان، في طلب حماس التزامًا علنيًا من إسرائيل باستمرار الاتفاق وعدم نكثه بعد الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين. فالذاكرة الفلسطينية مثقلة بتجارب سابقة انهارت فيها الاتفاقات بعد أن قدّمت غزة أوراقها كلها دون ضمانات كافية، ليعود بعدها القصف من دون سابق إنذار.
في هذا الجو المشحون، جاء تصريح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، ومبعوثه ستيف ويتكوف، ليزيد من غبار المشهد. فقد اتهما "حماس" بأنها لا تريد التوصل إلى اتفاق، وهي تهمة لم تمرّ مرور الكرام. إذ سارعت الحركة إلى الردّ معتبرة تلك التصريحات غير منسجمة مع ما يجري في غرف الوسطاء، ومخالفة للواقع الذي يشهد، بحسب قولها، "تقدمًا فعليًا" في المحادثات.
ومع كل ذلك، تبقى غزة في قلب العاصفة، تُعلّق آمالها على مفاوضات معقّدة تُدار من عواصم بعيدة، وتخشى أن يتحوّل حلم التهدئة إلى ورقة تفاوض تُستهلك حتى الرمق الأخير. وبين انتظار الاتفاق وتساقط الأنقاض، لا يزال شعبها يقاتل على جبهتين: جبهة البقاء، وجبهة الكرامة.