تصاعدت في الآونة الأخيرة نداءات الاستغاثة من قطاع غزة المنكوب،الذي تفوح منه رائحة الموت و يعاني من الجوع، لكنه يرفض الركوع أو الخنوع ، حتى رغم الحصار ممنوع من الصراخ، لكنها المنظمات الدولية والهيئات الأممية الإغاثية لم تستطع أن تتجاهل المشهد، فأطلقت صرخاتها التي هزّت ما تبقى من ضمائر العالم إن وجدت ، هو ما دفع العديد من عواصم القرار إلى إعادة ملف الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى طاولة النقاش و القرار الدولية .
اليوم، بات صوت غزة يعلو ليذكّر العالم بحقيقة المأساة: وضع إنساني كارثي مزري وصل إلى حد المجاعة، وسط الهجمة البربرية الإسرائيلية، التي لا تفرق بين المدنيين الأبرياء من طفل أو امرأة أو شيخ أو جريح.
في ظل هذا الصمت ظهرت صورة مؤثرة للملكة رانيا العبدالله، لفتت الأنظار عالميًا، لامرأة تُمسك طفلها المحتضر جوعًا، وهي تحتضنه بانتظار الموت ليرحمه من ألم الحياة. صورة تحمل في طياتها ألف رسالة و الف قصة ، تعبّر عن قسوة الحصار وأهوال الحرب وجرائم الإبادة الجماعية التي حولت غزة إلى ركام تنهشه المجاعة والأمراض.
هي رسالة صامتة للعالم المتخم المترف الذي لا يعرف ماذا يعني انقطاع الكهرباء عن أجهزة الأوكسجين، أو كيف تموت امرأة حبلى وقد جف حليب ضرعها ، لا تجد ما ترضعه لطفلها الذي ما زال متصل بحبلها السري ، أو لمريض جرعة غسيل كلى لا تصل.
غزة اليوم لن تموت، بل تصنع الحياة بالمقاومة، و تقدّم درسًا أخلاقيًا و إنسانيًا و سياسيًا في مواجهة مشاريع الإذلال والتجويع والخضوع.
لكن، خلف هذا المشهد المأساوي، عجلة السياسة هناك تتحرك. التصريحات الصادرة من واشنطن وتل أبيب حول "مفاوضات إنهاء الحرب" تبدو جزءًا من استراتيجية إلهاء، تهدف إلى كسب الوقت، وإعادة ترتيب المسرح وفق أجندة تستهدف الضفة الغربية، لا غزة فقط.
الاحتلال لا يستهدف الجغرافيا فقط، بل يسعى إلى محو ديمغرافيا الإنسان الفلسطيني. ويسعى من خلال سياسة التجويع والعقوبات، لفرض تسويات تفرّغ الأرض من سكانها و السيطرة على الموارد ، لهذا يفرض هندسة حدود ميدانية تخدم مخططاته في الضفة وغزة على السواء.
السيناريو الأكثر تفاؤلا ، للأسف، ليس سوى حكم محلي منزوع الدسم ، تابع، يعيش على هامش قرارات تل أبيب، مقابل تنازلات تضمن بقاء القطاع في صيغة "إدارة داخلية" تحكم المدن، مقابل تفريغ الريف والمناطق الحدودية.
وسط هذه الصورة، تبقى غزة علامة أسطورية فارقة مخالفة لقوانين الفيزياء الحيوية
في زمن الموت، غزة تختار الحياة، في زمن الركوع، رغم الجوع.
-رسالة إلى من هم في ميدان الخنادق أو على طاولة التفاوض داخل الفنادق:
ما قمتم به هو حق مشروع، ودفاع بطولي عن الأرض والكرامة. ولكن، وفي ظل ما نعيشه من مجازر جماعية، و اختلال في موازين القوى لا بد من شجاعة سياسية توقف هذا النزيف ، حيث من الشجاعة احيانا أن لا نموت .
آن الأوان على حركة حماس أن تتحمل مسؤولياتها السياسية، و توظف نضالها العسكري في خدمة الهدف السياسي الصحيح، خاصة ان قنوات الاتصال مفتوحة مع الولايات المتحدة ، الداعم الرئيسي لهذا العدوان ، آن الأوان لتحويل هذه القنوات إلى أدوات لوقف القتل، بدل الاكتفاء بالمواقف والبيانات.
في المقابل، غير مقبول من بعض الأطراف المشبوهة تحميل المسؤولية للأردن ، في إيقاف حرب لم يبدأها أو يكن طرفا فيها ، لكنه لم يدخر جهدًا في الإغاثة و دعم القطاع من بدايه العدوان عليه ، وآخرها قوافل الإمداد الميدانية. بعض الأصوات المشككة ذات الأجندة تسعى لتشويه و أضعاف دوره ، لأنها تدرك مدى قوة تأثيره في الحالة الجارية لأسباب عدة : موقعه الجيوسياسي و أهميته، ملف اللاجئين وحق العودة ، الوصاية الهاشمية على المقدسات .
كلها اوراق سياسية قادرة على إفشال مخططات الطرف الإسرائيلي الديني المتطرف الماثلة بتهديدات اطماع التوسعة و هواجس الهجرة القسرية لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الاردن.
أيضا هذه القيادة مطالبة اليوم بإعادة النظر في موقفها من المبادرة العربية، والانخراط في مشروع سياسي وطني فلسطيني جامع يعيد اللحمة الوطنية، ويضع حدا للانقسام المدمر.
الاستمرار في الانقسام لن يخدم سوى إسرائيل، و يقدم رفاهية آنية لقيادات منقسمة يقابله وضع الآلاف من ابناء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة في مواجهة مخاطر الموت على السواء.
ختامًا نعم، الاحتلال الصهيوني هو المسؤول الأول عن هذه المذبحة، ومعه الحليف الأمريكي.
لكن رفع هذه المأساة يتطلب قرارات استراتيجية، و خفض اسقف سياسية مؤقتة ، لدرء الخطر الأكبر: الإبادة الديمغرافية ، وهذا لا يعني بقبول املاءات الصهيوامريكي بالمطلق .
إن فشل جهود تشكيل حكومة وحدة وطنية محايدة سيؤدي إلى انفجار أوسع، قد يمتد ليشعل الإقليم بأكمله.
كما حذّر الملك عبد الله الثاني مرارًا: "المنطقة على صفيح ساخن، والشعوب باتت تتململ وقد تنفجر".
من لا يقرأ عليه أن يبدأ إعادة القراءة ومن لا يفكر فليتعلم . المرحلة تتطلب وعيا و تفكيرًا استراتيجيا ديناميكيا مرنًا، يُوازن بين الثوابت والمصالح، ويؤسس لخارطة طريق تحرر الأرض و تحمي الإنسان، وتعيد للأمة دورها التاريخي.
اليوم، لا نملك رفاهية الخيارات ، لكننا نملك إرادة البقاء، و الصمود في صراع الوجود و هذا كاف بالحد الأدنى في هذه المرحلة الحرجة لاستيعاب ما هو آت.