لا يخفى على أي مراقب حصيف لأوضاع منطقتنا أن الأردن بات في قلب استهداف مزدوج: أوله أطماع المشروع الصهيوني التوسعي الذي تجاوز حدود فلسطين التاريخية، وثانيه ضغوط اقتصادية متراكبة تعرقل مسيرة الاستقرار والتنمية.
فبعد محاولات فرض السيطرة الكاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة، لا تُخفي الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة نواياها المعلنة أو الضمنية بترحيل الفلسطينيين، ناعماً كان أو قسرياً، باتجاه الأراضي الأردنية. وقد بات الأردن أحد الأهداف المقبلة لهذا المشروع، في مسعى مكشوف لتحويله من واحة أمن واستقرار إلى ساحة توتر وخلخلة ديمغرافية.
وفي موازاة هذا التهديد الخارجي، لا تتوقف أجهزة الاستخبارات الصهيونية عن اللعب على وتر الهويات الفرعية داخل المجتمع الأردني، من خلال إذكاء التناقضات والنقاشات المفتعلة التي تستهدف وحدة النسيج الوطني، مستغلة منابر الإعلام ومواقع التواصل لترويج خطاب الكراهية، وزرع الشكوك بوطنية فئات أصيلة من أبناء هذا الوطن.
لكن رغم هذه المحاولات الخبيثة، يبقى الرد الأردني راسخاً في مسيرته الواعية، إذ تشكّلت الهوية الوطنية الأردنية عبر قرون من التفاعل الجغرافي والديمغرافي والثقافي، واستندت إلى وحدة المصير وتكافل المجتمع، لا إلى منابت أو أصول. وقد برزت هذه الوحدة بوضوح في كل محطة وطنية، حيث كانت الهوية الأردنية الواحدة لا ثاني لها، بشمولها وعدالتها، هي القاسم المشترك الذي التف حوله الأردنيون، مؤكدين أن تنوعهم هو مصدر غنى لا انقسام.
وليست هذه الظاهرة حكراً على الأردن، فقد أثبتت تجارب الأمم المتقدمة أن التنوع العرقي والثقافي، حين يُصان بالعقد الوطني والهوية الواحدة ، يصبح محرّكًا للتقدم لا مبررًا للتفتت. فالهويات الفرعية تُحترم، لكنها لا تُقدَّم على الهوية الأردنية الواحدة لا ثاني لها، التي تتسق مع تاريخ الأردن، وتحفظ حاضره، وتُرسي أسس مستقبله.
وعليه، فإن الهوية الأردنية الواحدة لا ثاني لها هي هوية تجمع الناس تحت لوائها ولا تقبل التجزئة أو الفئوية، لا تُختزل بمنطقة أو عشيرة أو أصل، بل تُصاغ من روافد متعددة امتزجت على أرض الأردن، فكوّنت هذا النسيج المتين الذي يشدّ بعضه بعضًا. إنها هوية تُعلي من شأن المواطنة، وتربط الانتماء بالفعل لا بالادعاء، وتحمل في طياتها الوفاء لتاريخ هذه البلاد، والولاء لهاشميتها التي كانت الحاضن السياسي والثقافي لوحدة الأرض والناس.
فالهوية الأردنية الواحدة لا ثاني لها، لا تتعارض مع الحداثة، بل تحتضنها، لأنها تؤمن بالدولة المدنية، وبالتطور المؤسسي، وبالعدالة الاجتماعية، وبإدماج الشباب والمرأة في صنع المستقبل. وهي في الوقت ذاته، لا تتنازل عن عمقها العربي، ولا عن موقفها القومي، ولا عن ثوابتها تجاه فلسطين، القضية المركزية التي كانت ولا تزال جزءاً من وعي الأردنيين وهويتهم.
ومن هنا، فإن صيانة الهوية الأردنية الواحدة ليست مجرد خيار ثقافي، بل هي شرط لبقاء الأردن قوياً ومتماسكاً، في وجه مشروع صهيوني لا يتورع عن اختراق الجبهات الداخلية وتفتيت المجتمعات من الداخل.
فليعلم الجيل الجديد أن حمل الراية لا يكتمل برفعها فحسب، بل بصون ما ترمز إليه من معانٍ، وتغذية جذورها بالفهم العميق، والعمل الصادق، والموقف الحازم. ولا نبالغ إن قلنا إن أعظم مؤامرة يمكن أن تنجح ضد الأردن هي تلك التي تنال من وحدته، وتزعزع ثقته بذاته، وتدفع أبناءه إلى الاصطفاف خلف تسميات ضيقة تُمزقهم ولا تجمعهم.
وإن الحفاظ على استقلال الأردن والهوية الأردنية الواحدة ** هو خط الدفاع الأول في مواجهة التحديات الصهيونية والمؤامرات التي تستهدف وحدته وكيانه. ولكن، لا تكتمل هذه الحماية إلا بخط موازٍ لا يقل أهمية، يتمثل في الالتفات الجاد إلى تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمواطنين، باعتبارها حجر الأساس في تعزيز منعة الوطن واستقراره.**
فالوطن القوي لا يُبنى بشعارات وحدها، بل بنهوض اقتصادي عادل، وتنمية شاملة، وفرص عمل تحفظ كرامة الإنسان، وتعليم نوعي يُطلق الطاقات، ونظام صحي يُصون الكرامة. إن العدالة الاجتماعية وتمكين الشباب والنهوض بالقطاعات الإنتاجية، ليست مجرد مطالب حياتية، بل ركائز استراتيجية لتحصين الدولة من الداخل، وتعزيز الثقة بين المواطن ومؤسسات بلاده.
وإذا كان العدو يسعى إلى تفتيتنا من الداخل، فإن وحدتنا الاقتصادية والاجتماعية، المبنية على رؤية وطنية متوازنة، هي الجدار المنيع الذي يفشل عنده كل طامع. فلنجعل من تحسين الواقع المعيشي جزءاً لا يتجزأ من معركتنا لصون الوطن، ولنؤكد أن قوة الأردن لا تُقاس فقط بحدوده الجغرافية، بل بكرامة مواطنيه وعدالة دولته ومتانة نسيجه المجتمعي.