حين يُكتب عن الرجال، لا يُكتب عن الألقاب ولا الرتب، بل عن القيم التي اختزلت معنى الرجولة في هيئة بشر.. وأنت يا أبا هيثم كنت ـ وما زلت ـ أحد أولئك النادرين الذين لا تنصفهم الكلمات مهما اتسعت.
في القلب شهادة حق، آن الأوان أن أقولها أمام الله وأمام من يعرفك ومن لم يعرفك.. شهادةُ رجل عاشرك عن قرب، وخَبِر معدنك، ورأى فيك ما لا يُرى في كثير من البشر. لقد عرفتك في ساحات الشرف، في عرين الجيش العربي، حيث الرجال يُعرفون عند الشدائد، وحيث لا يثبت إلا الأوفياء.
كنت قائدًا وأخًا وأبًا، فارسًا مقدامًا لا تهاب الصعاب، بسيطًا في حياتك، متواضعًا في حضورك، كبيرًا في فعلك، نقيًّا في سريرتك. لم تُغرك المناصب، ولا زلزلتك المغريات، بل كنت ترى الحياة من نافذة الزهد والرضا، تقول دائمًا: "حمداً لله، لك ما أعطيت ولك ما أخذت يا الله".. كلمات لا يجرؤ عليها إلا من ركن قلبه إلى السماء.
وقفت مع الناس في أحلك ظروفهم، لا تنتظر شكرًا ولا جزاء، بل كان الخير طبعك، والنُبل سمتك، والحق مبدأك. ما عرفنا عنك يومًا إلا الوقوف إلى جانب المظلوم، والانتصار للحق، ولو كلفك ذلك الكثير.
وأنا كنت أحد أولئك الذين مسّهم جور الزمان، وتكالبت عليهم الظروف، وكدت أفقد إيماني بكل شيء.. حتى جئتَ أنت، رافضًا أن تكون شاهد زور أو سبب ألم. قلتها لي بصدق لا يُنسى:
"لو اجتمع كل مسؤولي الأرض على أن أظلمك، لن أكون أداة في ظلمك ولا في ظلم أبنائك، وسأقف بين يدي الله نقيًا لا يحمل ذنبًا على ظهري."
فمزّقت استقالتي بيدك، وفتحت لي مكتبك وسيارتك وقلبك.. فكيف يُمكن للمرء أن ينسى مثل هذا الموقف، بل كيف لا ينحني له احترامًا ودعاء؟
يا أبا هيثم.. أمثالك لا تتكرر، فالأصالة لا تُصنع، والإخلاص لا يُمثل، والشهامة لا تُدرَّس.. هي خِصال خُلِق بها رجال من طينٍ مختلف.
لك مني كل الدعاء بأن يديمك الله سندًا وعزًّا، وأن يرزقك من الخير ما لا يخطر على قلب بشر، وأن يجعل ذكرك الطيب في الناس صدقة جارية لا تنقطع.
دمتَ كبيرًا كما عهدناك... ودامت سيرتك مصدر فخر لكل من عرفك.