لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق توترًا على الساحة الدولية، بفعل تضارب المصالح الإقليمية والدولية، وتراكم الصراعات السياسية والدينية التي لم تهدأ منذ عقود. وهو ما يجعل من السلاح النووي قضية مركزية ذات أبعاد استراتيجية وأمنية، تهدد أمن المنطقة وتقوّض استقرارها. فملف السلاح النووي في الشرق الأوسط لا يمكن النظر إليه بمعزل عن توازنات القوى بين الفاعلين الأساسيين، خاصة في ظل السياسات المتناقضة بشأن امتلاكه أو منعه، والاستخدام المزدوج له كسلاح ردع من جهة، وكعامل تهديد دائم من جهة أخرى.
وفي ظل هذه التعقيدات، تنفرد إسرائيل بتبني سياسة "الغموض النووي"، المعروفة بالعبرية بـ"عميموت غرعيني"، والتي مكّنتها من بناء ترسانة نووية خارج أي إطار قانوني دولي، وبدعم مباشر من قوى غربية، أبرزها فرنسا والولايات المتحدة. فقد تأسس البرنامج النووي الإسرائيلي في أواخر خمسينيات القرن العشرين بدعم فني فرنسي، وتم تعزيزه لاحقًا باتفاق سري بين رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير والرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، والذي يقضي ضمنيًا بتجاهل واشنطن للقدرات النووية الإسرائيلية مقابل التزام إسرائيل بعدم التصريح بها أو استخدامها، إلا في حالات التهديد الوجودي.
وقد مكّنت هذه السياسة إسرائيل من الحفاظ على تفوّقها الاستراتيجي في الإقليم، دون الخضوع للضغوط القانونية أو الأخلاقية الناجمة عن الالتزام بالمعاهدات الدولية، وعلى رأسها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وتشير تقديرات متعددة لخبراء دوليين إلى أن عدد الرؤوس النووية الإسرائيلية يتراوح ما بين 100 إلى 400 رأس نووي، مع الإشارة إلى أن قدراتها الأساسية تتمركز في مفاعل "ديمونا" بصحراء النقب.
وفي المقابل، تُعد إيران الطرف النقيض في معادلة القوة الإقليمية، إذ تثير طموحاتها النووية جدلًا واسعًا على المستويين الإقليمي والدولي، لا سيما في ظل المسار التصاعدي لتطور برنامجها النووي. فبينما تصر طهران على سلمية هذا البرنامج، فإن استمرار أنشطتها المكثفة في تخصيب اليورانيوم يعزز من شكوك خصومها، وعلى رأسهم إسرائيل ودول الخليج، بشأن نواياها الحقيقية. ولا شك أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018 شكّل نقطة تحول في العلاقة بين طهران والغرب، إذ أدى إلى انهيار شبه كامل في الثقة، وأعاد المنطقة إلى أجواء التوتر وانعدام الاستقرار، والتي تفاقمت خلال إدارة الرئيس ترامب الحالية. ممّا أدّى إلى إعلان إسرائيل للحرب على إيران بغرض منعها من تحقيق طموحاتها وتطوير قدرات نووية قد تجعلها تحقق توازنا استراتيجيا ولو بشكل رمزي معها.
ومن جهة أخرى، تتابع دول الخليج، وبخاصة المملكة العربية السعودية، هذه التطورات بقلق متزايد، مما قد يدفعها مستقبلًا إلى تبني برنامج نووي ذي طابع عسكري، في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة. والتي قد تتطلب بناء قدرة ردعية ذاتية على المدى الطويل، وهو ما يشير إلى إمكانية انطلاق سباق تسلّح نووي إقليمي، تتقاطع فيه الحسابات الأمنية مع اعتبارات السيادة والهيبة الوطنية.
وبالرغم من تعدد المبادرات الدولية الرامية إلى منع انتشار الأسلحة النووية، والعمل على جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية منها، فإن هذه الجهود لم تحقق النجاح المرجو. ويُعزى ذلك إلى جملة من العوامل البنيوية، وعلى رأسها ازدواجية المعايير، وغياب الإرادة السياسية، وتسييس الملف النووي. فإسرائيل، على سبيل المثال، ترفض الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي، ولا تواجه أي ضغوط دولية تُذكر في ظل التساهل الغربي المستمر معها، في حين تُخضع برامج دول أخرى مثل إيران، أو حتى المشاريع النووية السلمية لبعض دول المنطقة، للرقابة والتدقيق المشدّد.
هذا الانقسام بين التسامح من جهة والتدقيق المشدد من جهة أخرى يُضعف من مشروعية النظام الدولي المعني بنزع السلاح، ويُشجّع أطرافًا أخرى على اتباع النهج ذاته، ما يهدد بتآكل منظومة عدم الانتشار النووي العالمية. كما يفتح الباب أمام احتمال نشوء سباق تسلّح نووي متعدد الأطراف، إذ قد تسعى بعض الدول إلى امتلاك تقنيات الردع النووي على غرار إسرائيل وإيران. كما أنَّ استمرار بقاء إسرائيل خارج نظام الرقابة الدولية، يضعف المعايير القانونية الدولية، وتزداد احتمالات اندلاع نزاعات مسلحة أوسع نطاقًا، خاصة في ظل غياب قواعد واضحة لضبط التوازنات والردع، وانعدام الشفافية والمساءلة في النظام الدولي.
الدكتور بشار سعود الجبور- دكتوراة في العلوم السياسية.