منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، تقف الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على ضفة الخصومة الأيديولوجية والسياسية مع النظام الإيراني، وقد حاولت كلتاهما، عبر العقود، أن تفكك شيفرة العقلية الإيرانية، أن تفهم دوافعها وأبعادها النفسية والتاريخية، لكنها – وبالرغم من أجهزتها الاستخبارية والتكنولوجية – فشلت مراراً في استيعاب البنية العميقة للعقل السياسي الإيراني، وبقيت ردّات فعلها أسيرة التحليل السطحي والتوقعات الخاطئة.
العقلية الإيرانية ليست من طراز الحسابات الغربية الباردة، ولا من منطق "العين بالعين" التقليدي، بل هي مزيج معقد من التاريخ الفارسي، والمظلومية الشيعية، والعقيدة الثورية. إنها عقلية تصوغ أفعالها من صفحات كربلاء، وتضع الشطرنج السياسي بجوار كتب الفقه، وتستلهم مواقفها من أساطير المقاومة التاريخية. لذلك حين ظنّت واشنطن وتل أبيب أن الضغوط القصوى والعقوبات الاقتصادية ستجبر طهران على الركوع، كانت إيران تبتكر طرقًا أخرى للالتفاف، وتحوّل الحصار إلى فرصة لبناء ذاتها من الداخل.
وما من مثال أبلغ على جهل الطرفين بهذه العقلية من طريقة تعاملهم مع أذرع إيران الإقليمية. فقد ظنت إسرائيل أن اغتيال قادة الصف الأول، كما حصل مع قاسم سليماني، سينهي التمدد الإيراني، لكنها فوجئت بأن الردود لا تأتي فورًا، بل تُطبخ على نار الذاكرة، وتخرج في وقت لم يكن في حسبان أحد. واعتقدت أمريكا أن تغيير الأنظمة المجاورة لإيران سيقوّض نفوذها، لكنها رأت العكس؛ فكلما انهارت دولة، تمددت طهران في فراغها.
الخطأ المتكرر لأمريكا وإسرائيل يكمن في إسقاط المنطق الغربي على منظومة شرقية عميقة لا ترى الوقت كما يراه الغرب، ولا تفهم الثأر كما يفهمه البيت الأبيض، ولا تخوض المعارك بنفس المعايير. إيران تعرف كيف "تنتظر"، وتعرف متى "تراوغ"، ومتى تضرب في خاصرة الخصم بوسائل غير تقليدية، من حرب السايبر إلى الطائرات المسيّرة إلى أدوات الضغط الشعبي في المنطقة.
ولم تكن الحرب الإسرائيلية الإيرانية – السرية منها والمعلنة – سوى حقل تجارب لهذا الجهل المتراكم. فبينما كانت إسرائيل تترقب ضربة مباشرة، كانت إيران تبني مخزونها الصاروخي بعيد المدى، وتؤسس جيشًا غير نظامي في أربع دول عربية، وتنقل المعركة إلى حدود الجليل دون أن تطلق صاروخًا واحدًا من أراضيها.
إن أمريكا وإسرائيل، على ما تملكانه من قوة، لم تدركا بعد أن العقلية الإيرانية ليست خاضعة لمعادلات الربح والخسارة اللحظية، بل تشتغل وفق منطق "النفَس الطويل"، و"التغلغل الهادئ"، و"الرد من حيث لا يُتوقع الرد". وما تزالا، إلى اليوم، تعتقدان أنهما تتعاملان مع خصم عادي، بينما هما أمام منظومة فكرية وسياسية تنتمي إلى مدرسة الحسين، ودهاء كسرى، وعقيدة الانتظار.
لذلك، ستبقى أمريكا وإسرائيل في دائرة المفاجأة، طالما لم تعودا تقرآن التاريخ من شرقه، ولم تفهما أن إيران – بتركيبتها المعقدة – لا تُجيد الانكسار كما يُجيده الضعفاء، ولا تُجيد الإفصاح كما يهوى الغرب، بل تمضي على خطّها بصبرٍ فارسيٍّ قديم لا يهرم، وبتخطيط شيعيٍّ حركيٍّ لا يُستهان به.