في مشهد يتكرّر، ولكن بأبعاد أكثر توتّرًا ودراماتيكية، رفعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية راية الانتقام للمرة الثانية، في أعقاب اعتداءات إسرائيلية استهدفت عمقها السيادي ومراكزها الحيوية. لم يكن ذلك مجرّد استعراض رمزي، بل إعلان واضح وصريح بأن الانتقام لم يعد احتمالًا واردًا، بل خيارًا تقترب ساعته. ففي سياق إقليمي متوتر ومشحون، تأتي هذه الرسالة الإيرانية لتؤكد أن خطوط الاشتباك في المنطقة لم تعد محكومة بحسابات الردع التقليدية، بل دخلت طورًا جديدًا من التصعيد المدروس.
لقد كانت إيران دائمًا تتعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية عبر استراتيجية "الصبر الاستراتيجي"، لكنها في الأشهر الأخيرة عدّلت من قواعد الاشتباك، مفضّلة الانتقال من طور التهديد الدبلوماسي إلى الإعلان الصريح عن نواياها الانتقامية، مستخدمة أدوات متعددة من بينها الحشد الإعلامي، والتعبئة العسكرية، والتلويح بالقوة الصاروخية، وتحريك وكلائها الإقليميين.
إن رفع راية الانتقام للمرة الثانية لا يعني فقط الرغبة في الرد، بل يشير إلى تطور نوعي في العقلية الاستراتيجية الإيرانية، التي باتت ترى في السكوت تآكلًا للهيبة، وفي التجاهل تفريطًا بالردع. الرسالة واضحة: "لا يمكن لإسرائيل أن تضرب، ثم تنام قريرة العين". فكل استهداف لمواقع إيرانية داخل الأراضي أو عبر الحلفاء في سوريا والعراق ولبنان، يقابل اليوم بحالة تأهب داخل طهران، وإعادة صياغة لخريطة الرد.
لكن يبقى التساؤل الحاضر في الأذهان: هل ستقدم إيران على ردّ مباشر؟ أم ستلجأ إلى أدواتها الإقليمية؟ في الواقع، تميل التقديرات الاستراتيجية إلى أن طهران تُدرك تبعات المواجهة الشاملة، لذا فهي على الأرجح ستختار "الردّ الذكي"، أي الضرب تحت السقف الأميركي، مع الحفاظ على التوازن الإقليمي. وربما تختار توقيتًا لا تتوقّعه تل أبيب، أو تردّ بأسلوب غير نمطيّ، عبر الفضاء السيبراني، أو باستهداف مواقع إسرائيلية عبر طرف ثالث.
المنطقة تقف على حافة انفجار، والخطاب السياسي الإيراني بات أكثر حدة وثقة. فالقيادة الإيرانية ترى أن المرحلة الحالية تتطلب تحريك عناصر الردع النائم، خصوصًا أن الشارع الإيراني، ومعه محور المقاومة، بات يتطلّع إلى خطوة عملية تنهي "هيمنة الطيران الإسرائيلي" الذي يستبيح أجواء الحلفاء دون رادع.
ولا يغيب عن المشهد أيضًا أن رفع راية الانتقام الإيرانية الثانية يتزامن مع تحولات دولية كبرى: انشغال العالم بالحرب الروسية الأوكرانية، تعثّر مفاوضات الملف النووي، وإعادة تموضع القوى الكبرى في الشرق الأوسط. وهذه العوامل كلها تُغري طهران بالتصعيد المدروس.
ختامًا، يمكن القول إن المشهد لا يزال في طور الترقب. لكن ما هو مؤكد، أن المنطقة تدخل مرحلة "ما بعد الصمت" الإيراني، حيث لم تعد طهران تُرسل رسائلها عبر وسطاء، بل تكتبها على رايات معلقة فوق سماء المواجهة، مكتوب عليها بوضوح: "الرد آتٍ، فلا تناموا هانئين".