أتيتُ لا لأُحرّضَ السيوفَ، بل لأُشهِرَ قلمًا يفقهُ نبضَ الوعي، ويغرسُ على صفحاتِ الدهرِ ما يُخلّدُ الفكرَ إن انطمس، فما القلمُ إلا سيفُ العاقل، ورُمحُ البصير، يُقاتِلُ لا ليفتِكَ بالأبدان، بل لينهضَ بالعقول، ويحررَ الروحَ من جهلٍ مُتراكمٍ كالظلام، ليوقظُ الأرواحَ إذا سَكنت، ويفتحُ للمعرفةِ أبوابًا لا تُغلقها رياحُ الغفلة، إذ ليس في الوجودِ عبثٌ، وإنما سُننٌ تمضي، ومقاديرُ تُكتب، ونصوصٌ لا يَزيدُها اجتهادُ الكسالى، ولا يُنقصُها كلالُ المضيّعين.
عِشْ ما شِئتَ، فإنّهُ مكتوب، لكنّ الكتابةَ لا تعني الجمود، بل تقتضي الفهمَ، وتستنهضُ السعي، وإن عمارة الأرضِ، في أصلها، علمٌ قبل أن تكون طينًا، ويقينٌ قبل أن تُصبح عمرانًا، فالذين احتسبوا أعمارَهم لله، نالوا الفضلَ لا بطولِ المقام، بل بحُسنِ الأثر، وصدقِ الكسب.
إنّ في انشغالِ الإنسانِ بنفسه عبادةً مغفولًا عنها، لا بمعنى الأنانية، بل بتحقيق الذاتِ النافعة، فالعقلُ لا يُكرَّمُ في حُشودِ الصخب، بل يُصانُ في خلوتِه، ويعلو حين يترفّعُ عن زيفِ المجاملات، ويأنفُ من الطوافِ حول الشكِّ وريبِ المرتابين.
احذرْ الحسودَ إذا اقترب، فهو لا يحملُ خنجرًا، بل يُخفي السمَّ في اللفظِ والتلميح، ويُضمرُ السقوطَ تحت قناعِ التقدير، والعاقلُ لا يُسايرُ من تربّى على الغيرة المخالفةً لِما تدعو إليه الغِبطة، ولا يُجادلُ من اتّخذَ الظنَّ منهجًا، بل يمضي في دربِه صامتًا، لأنّ البناءَ لا يرتفعُ بالصوت، بل بالتعب.
هكذا يُصنع المجد، لا في خطبِ الحماسة، بل في صبرِ التفاصيل، ولا في المباهاةِ بالبدءِ، بل في الإصرارِ على الوصول، فاعملْ بصمت، فإنّ مَن رفعوا الجبالَ لم يصرخوا، بل حملوا أثقالهم وواصلوا الطريق.