في مشهدٍ سياسيٍ عربيٍ تتآكل فيه المفاهيم المؤسسية تحت جمر الشخصنة والاستتباع الخارجي ، برزت المملكة الأردنية الهاشمية بوصفها أحد التجليات القليلة المتبقية لـ الدولة الوظيفية الراشدة الحكيمة ، التي تمأسست على مبدأ الشرعية الإجرائية لا الشرعية الكاريزمية الديكتاتورية المتسلطة ، وعلى توازنٍ دقيقٍ والحفاظ على الحقوق الدستورية اللصيقةبالإنسان ، واحتضان المواطن في ظل عقد اجتماعي غير مكتوب لكنه متجذّر في الضمير الجمعي ، لقد نجح الأردن في صياغة هوية سيادية عريقة على فوضى الإقليم المجاور ، لا عبر الأدوات الأمنية وحدها ، بل من خلال تشييد نسق مؤسسي ذي مرجعية دستورية صلبة ، وشرعية قانونية وليدة استتباع مشروع ، تتناغم فيها السلطة التنفيذية مع قيد القانون، وتتكامل فيها الوظيفة الأمنية مع مبدأ الأمن الوقائي في فكرة درء الاعتداء المواجه ، لا الأمن القمعي ، وتُمارس فيها القيادة الهاشمية دورها كـ عرش ملكي مُقدس ، بل كموقع يضمن استمرارية النسق وشرعيته البنيوية ، في الأردن الحبيب .
في حين تحوّلت النظم المجاورة إلى أشكال هجينة من الدولة الفاشلة أو الدولة الريعية الريبة، ظل الأردن يحافظ على تماسك البنية العلائقية بين مكوّناته السوسيولوجية دون اللجوء إلى سياسات الإقصاء أو الاستقطاب ، مما أهّله لأن يكون في لحظات كثيرة دولة عازلة لا تصدّر العنف ولا تستورده، بل تضبط إيقاع الجغرافيا المحيطة بحسّ سيادي مرن، دون التفريط بمحددات الذات.
الأردن لم يُنتج دولته على أنقاض هوية، كما تفعل الأنظمة المعسكرة أو المؤدلجة، بل شكّل هوية وطنية مُركّبة تستند إلى مفهوم المواطنة المتساوية تحت ظل الشرعية الدستورية، لا إلى هيمنة مكون على آخر. هذه الدينامية الفريدة هي ما جعلت مؤسساته قادرة على النجاة من شتى الضربات الاقتصادية والسياسية التي أطاحت بغيره، إذ لم تكن الدولة في الأردن جهازًا بيروقراطيًا فقط، بل سردية متماسكة، تسكن فيها شرعية القيادة داخل وجدان الشعب، لا فوقه.
وفي الوقت الذي تحوّلت فيه بعض الأنظمة إلى أدوات تنفيذ خارجية لـ إرادة دولية صلبة، ظلّ الأردن وفيًا لمفهوم الاستقلال السيادي التوازني، الذي لا يُغلق على الذات، ولا ينفتح على الخارج انفتاح التبعية. لم يكن مجرد طرف في مفاعيل الاصطفاف الإقليمي، بل كان دائمًا فاعلًا جيوسياسيًا حياديًا بمسؤولية، يُجيد التموضع دون أن يفقد تعريفه الذاتي ككيان دولي عريق .
فبينما تنشطر الكيانات العربية إلى نُظم بوليسية أو ثورانية عاجزة، ظل الأردن مُصِرًّا على أن يكون نموذجًا لما يُعرف بـالدولة ذات السيادة القانونية العالية، أي الدولة التي لا تُختزل في رأس الحكم، ولا تتفكك عند أول احتكاك بالمجتمع، بل تبقى متماسكة بوصفها كيانًا شرعيًا مُنتجًا للحُكم، لا مجرد منتِج للسلطة.
هنا، لا تُختبر الدولة عند حدود الأمن، بل عند قدرتها على تجذير الهوية المؤسسية المنضبطة وسط ركام الجغرافيا. وهنا بالذات، يتجلّى الأردن كدرس نادر في كيفية بناء الكيانية دون الوقوع في شرك العسكرة أو الشخصنة.