في عصور الاستقرار والتوازن، تشكّل الثقة بين الشعوب وحكوماتها ذلك الخيط الرفيع الذي يربط الحاكم بالمحكوم، ويوحد الرؤية والمصير، ويغرس في النفوس الإيمان بأن الدولة هي كيان الرعاية والحماية والمستقبل. غير أن هذه الثقة، حين تتعرض للتآكل، لا تنهار فجأة، بل تتسلل إليها عوامل الضعف رويدًا، حتى تُصيبها في جوهرها، وتحوّل العلاقة بين المواطن والمؤسسة الرسمية إلى علاقة هشّة يسودها الشك والاغتراب والانفصال المعنوي.
إنّ الثقة السياسية لا تنبع من فراغ، ولا تُستولد من الهيبة القسرية، بل تُبنى على رصيد من المصداقية المتراكمة، وعلى تجانس القول مع الفعل، وعلى عدالة السياسات ومساواة المواطنين في الحقوق والفرص. وحين يشعر المواطن أن وعود التنمية لا تتحقق، وأن آليات المشاركة الشكلية لا تنتج تغييرًا حقيقيًّا، وأن الفساد بات مستساغًا ومغفورًا لأصحابه، تبدأ ملامح التآكل في الظهور، ويتحول الانتماء من شعور حيّ إلى واجب ثقيل.
تتجلى مظاهر هذا التآكل في خطاب المواطن اليومي، حيث تنشط لغة التهكم والسخرية من كل ما يصدر عن المسؤولين، وحيث تتحول المؤتمرات الرسمية إلى مشاهد عبثية، وتُستبدل الرغبة في الإصلاح باليقين بعدم الجدوى. وما يزيد الطين بلّة أن بعض الأنظمة لا ترى في هذه المظاهر إلا حالات معزولة أو مشاغبات سياسية، بينما هي في الحقيقة مؤشرات على خلل بنيوي يُهدد ركائز الاستقرار.
ولعل أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تُفضي إلى تفكك العقد الاجتماعي غير المكتوب، إذ يتراجع شعور المواطن بالمسؤولية الجماعية، ويغدو أكثر ميلاً للانعزال والنجاة الفردية، وقد يلجأ إلى المواربة أو التمرد أو حتى الانخراط في تيارات متطرفة، بحثًا عن معنى ضائع، أو احتجاجًا على ما يراه قهرًا معنويًا دائمًا.
وإذا كان من سبيل إلى رأب هذا الصدع، فهو لا يتم إلا من خلال مكاشفة صريحة، ومراجعة شاملة، وسياسات تستمد مشروعيتها من الشفافية لا من الشعارات. فالثقة لا تُستعاد بالكلمات، بل تُبنى بالأفعال، وتُرمم بالعدالة، وتتجدد حين يشعر المواطن بأن صوته مسموع، وكرامته مصانة، وحقوقه ليست محل مساومة.
لقد ولّى زمن الوصاية السياسية، وأصبح المواطن أكثر وعيًا وجرأة وقدرة على التقييم والمساءلة. ومن لا يدرك هذه التحولات، سيفقد زمام المبادرة، ويكتشف – بعد فوات الأوان – أن الشعوب حين تفقد الثقة لا تنقلب بالضرورة، لكنها تنسحب، وتدير ظهرها، وتكف عن الحلم، وذلك أخطر أنواع الغياب.