يتردّد في الأوساط السياسية والاقتصادية، سؤالٌ جريءٌ ومثير للجدل: هل الولايات المتحدة الأمريكية تتجه فعلاً نحو الإفلاس؟ قد يبدو هذا السؤال في ظاهره تهويلاً إعلامياً أو رغبة في الاصطياد في مياه الهيمنة الغربية، لكنه في العمق يستند إلى إشارات واقعية وتراكمات يصعب تجاهلها. فاقتصاد الدولة الأكبر في العالم لم يعد بمعزل عن التآكل الداخلي، والتحديات الخارجية التي تعصف بمنظومة تفوّقها التقليدي.
الرقم الذي لا يُمحى من الذاكرة هو الدين القومي الأمريكي الذي تجاوز 34 تريليون دولار، رقم أقرب إلى أن يكون سردية خيالية منه إلى واقع اقتصادي قابل للتعايش. فما يحدث في واشنطن اليوم ليس مجرد عجز في الموازنة، بل أزمة إدارة شاملة لديون تتراكم بنمط لا يملك أحد شجاعة مواجهته. ومع كل أزمة سياسية، يطل شبح "رفع سقف الدين"، وكأنها مسكّن دوري لورم لا يتوقف عن التضخم. فهل هذا إنقاذ أم تعويم وهمي على حساب مستقبل الأجيال القادمة؟
ما يزيد الصورة قتامة هو الانقسام الحاد داخل البيت السياسي الأمريكي. بين جمهوريين وديمقراطيين لم تعد الأولويات وطنية، بل حزبية وموسمية، تتقاذفها المزايدات وخطابات الاستقطاب. الموازنة لا تُبنى على رؤية اقتصادية، بل على صفقات سياسية، والاقتصاد تحوّل إلى أداة ضغط انتخابي، لا إلى منظومة تنموية عادلة ومستقرة. هذا الفراغ القيادي يُربك السوق، ويُخيف المستثمرين، ويُضعف الثقة في القرار الأمريكي نفسه.
يُضاف إلى ذلك أن الدولار، الذي ظل لعقود يتربع على عرش العملات العالمية، بدأت تتسرب من حوله مؤشرات التراجع. دول كبرى بدأت تعيد النظر في اعتمادها المفرط عليه، وتسعى لبناء نظام مالي بديل، أقل تبعية، وأكثر استقلالاً. ما يحدث ليس انقلاباً مباشراً، لكنه "نزيف بطيء" في شرايين النفوذ الأمريكي، وقد يحمل في طياته مستقبلاً انهياراً للامتياز التاريخي الذي منح أمريكا القدرة على طباعة الأموال دون قيود حقيقية.
ولأن الاقتصاد لا يعيش في عزلة عن الجغرافيا، فإن الحروب الاقتصادية التي تخوضها الولايات المتحدة، من الصين إلى روسيا، تُشكل عبئاً إضافياً. فهي تدخل في صراعات استنزافية باسم العقوبات والتوازنات، لكنها في الوقت نفسه تُضعف من سلاسل الإمداد، وتزيد من التكاليف الداخلية، وتُحفّز الخصوم على بناء بدائل لا تُبقي لأمريكا تفوّقاً مضموناً.
وعلى الجانب الداخلي، فإن مظاهر الانقسام الاجتماعي، واتساع الهوة بين الطبقات، وتضخم تكاليف التعليم والصحة والسكن، تُشكل عوامل تفجير كامنة. الاقتصاد لا يُقاس بنمو الناتج المحلي فقط، بل بقدرة المواطن العادي على الحياة الكريمة، وبالثقة الجماعية في أن النظام يعمل لصالح الجميع. وهذا ما بدأ يتآكل في صمت.
فهل الإفلاس قادم؟ ليس بالضرورة أن تنهار أمريكا كدولة في مشهد دراماتيكي، لكنها قد تدخل في طور الإفلاس السياسي والأخلاقي والمؤسسي، حيث تتراجع قدرتها على القيادة، وتفقد ثقة العالم بها، ويتآكل نفوذها رويداً رويداً. الإفلاس الحقيقي لا يُقاس بالأرقام فقط، بل بفقدان القدرة على معالجة الأزمات بمنطق الدولة، لا بمنطق اللحظة.
الولايات المتحدة لا تزال تمتلك أدوات هائلة للبقاء، لكن تجاهل الإنذارات المتكررة قد يجعل منها عملاقاً على أرضية رخوة. ومن المؤسف أن نرى إمبراطورية تمتلك كل شيء، لكنها تُهدره بسبب صراع داخلي أعمى، وغرور استراتيجي لا يعترف بأن العالم يتغير. الإفلاس ليس نهاية المال، بل بداية العدّ التنازلي لزمنٍ كان يُظن أنه خالد.