حققت كرة القدم منذ عقود خلت - بوصفها أبرز الألعاب الرياضية متابعة وشغفاً على الاطلاق- ما لم يحققه أي فن رياضي آخر من الشهرة وجذب الآخر، وقد أصبحت شكلاً جديداً للقوة يشترك فيها جميع الدول بصرف النظر عن ترسانتها العسكرية أو قوتها البشرية، فحين يرتجُّ استادُ كرة القدم على من فيه، ويطيرُ هتاف الجمهور تشعر بحالة انتصار رغم عدم استلالك لسيف أو قذفك لمدفع، انتصار يدوي في الارجاء، يشعر فيه كل من يلعب ولا يلعب أو يتابع بأن حدثاً ما زلزل العالم، أو أن مشهداً ما أوقف لحظات العمر، وهذا مما لاشك فيه واقع الكرة في أرجاء المعمورة.
عربياً وبإمعان بسيط، فإن واقع حال كرة القدم كان لعقد مضى يراوح مكانه، وكانت الفرق العربية تشارك لغايات المشاركة لا أكثر، أما في السنوات القليلة الماضية فقد انتقلت رياضة كرة القدم لمواقع متقدمة واصبحت تحظى بمتابعة عالمية، كل ذلك لشهود كبيرة بُذلت في سبيل أن يكون للعرب موقعهم الرياضي المتميز، ومن ذلك فتح سياسة الانفاق الرياضي واستقطاب الكفاءات الرياضية من لاعبين ومدربين، ناهيك عن تجهيزات البنية التحتية الرياضية.
محلياً، وإلى وقت ليس ببعيد كان اهتماماً الرياضي حبيس الجماهير، ولم تصل لصناع القرار ذي الصلة أهمية هذه الرياضات، فكنّا نعيش نكسات رياضية برغم الأمل، فتقوم الدنيا ولا تقعد، تكتض المقاهي، وتزدحم الشوارع، وتُطلق النساء، ويتخاصم الأصدقاء، نتراشق الّتهم والنزاعات، ونحدث أزمة سلوكية، وأخرى مرورية، وغيرها أخلاقية، وقد تكون وطنية، فنرفع أعلام ونُلوّح بشماغ أحمر أو كوفية بيضاء، ونعود للأصول وأصلنا واحد، ونجرّح المشاعر، ونكسر الخواطر، ونُلعن الطوارىء؛ بغية فرحة ينتظرها الشباب طويلاً لنكتشف أننا لم نؤسس لثقافة رياضية بالمستوى المطلوب، فكرة كرة القدم التي تجمع باتت في واقعنا تفرّق لنقطف نهاية خيبة أمل بفريق أياً كان لون الفريق أزرق أو أخضر أو أحمر أو أي لون آخر هو حصيلة ألوان متداخلة. ولعل الأمر يزداد سوءاً إذا ناصرنا فريقاً غربياً فتزداد خصومتنا وكأنه جزء من عقيدتنا رغم عدم معرفة ذلك الفريق لنا وبوجودنا على الأغلب، والمتابع لحال مواقع التواصل الاجتماعي وما يحدث فيها من تداعيات ترتبط بالشأن الرياضي دليل على ذلك.
أما اليوم، فالوضع تبدل والحال تغير، وأصبحت كرة القدم الاردنية في المصاف عالمياً، وأكثر ما ينبغي الاشارة إليه كمسببات ذلك التغير هو اهتمام نظام الدولة السياسي وعلى رأسه اهتمام جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين المعظم وولي عهده الامين أمير الأمل والرياضية أمير الريادة والابتكار، الذي لم ينقطع يوماً لكنها الاقدار، فالاردن وبالرغم من محدودية انفاقه الرياضي بفعل محدودية موارده إلا أن نظامه منح الجانب الرياضي اهتمام كبير قلما تجده في الانظمة العربية، اهتمام مبعثه ايمان القيادة الهاشمية بقدرات النشامى الذين لطالما مثلّوا الاردن تمثيلاً حقيقياً لا تمثيل زائف، ايمان مبعثه الايمان بالاردن وطناً يستحق ما يليق فيه، ويستحق الأفضل.
اهتمام جلالة الملك برغم ضيق وقته ومتابعته لجهود النشامى يعكس ايمان جلالته بأن هذا الوطن يستحق أن يكون بالصدارة، فهو الاردن وإن كان بحجم بعض الورد إلّا أن له شوكة ردت إلى الشرق الصبا.
اهتمام ولي العهد الاخير ورفضه للجلوس في منصة الشرف ورغبته في التواجد مع أبناء وطنه على مدرجات مسقط، حديثه لمؤازري النشامى، وحديثه للاعبين من قبل، وشحذه هممهم، وهذا الوفاء منه لتراب الوطن لا يستحق منا إلا الوفاء لأمير كان ولا يزال الاقرب لشباب وطنه. فما المطلوب اليوم؟
أعتقد جازماً أننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نقرأ عن سياسة العشب الأخضر الممتد على امتداد الأعين الناظرة والأذن السامعة، أن نتخلص من سياسات التزمت الرياضي، أن نرفع قبعات الاحترام لمستويات اللعب الرفيعة، أن نتجاوز خيبات الأمل بالأندية، أن نفكر لمستقبلنا الرياضي، أن نتجاوز تهريج بعض المسؤولين الذين لا زالوا يؤمنون بنظرية العقل السليم واقتصاره على الجسم السليم ويضعونها نهجاً لعملهم رغم أنها نظرية بالية أثبت الواقع والتاريخ فشلها، علينا تطبيق النظريات الرياضية العالمية، وأن نراجع سياسات الدعم الرياضي ودعم الناشئين، رياضة ذوي التحديات، وواقع الالمبياد الخاص بذوي الإعاقة، الرياضة النسوية، التشاركية بين قطاعات الدولة لدعم الواقع الرياضي، رسالة الأندية وعمادات شؤون الطلبة في الجامعات، السياسات الرياضية، محاربة النظرة الدونية لخريجي المجال الرياضي وممارسيه، مراجعة المنظومة الاخلاقية الرياضية، الايمان بالآمال الملكية والشعبية، كل ذلك وأكثر ليمتد أثره لفنون الرياضة الأخرى.
إن الرياضة اليوم - باعتبارها صورة جديدة للثقافة - وسيطرة كرة القدم تحديداً على المشهد واختطافها للشباب كأكثر فئات العمر متابعة واهتماماً حتى باتت تسيطر على فكرهم وتمتلك عقولهم فيقدمونها على أي شيء مهما كانت قيمته يجعل من الضرورة بمكان أن نعيد لأجلها ترتيب الأوراق؛ لنكون على قدرها وقدر المنافسين على امتداد الساحات الخضراء والمدرجات العاصفة بالهتاف، كما يستوجب منا أن نقدم لها الدعم المعنوي والمادي، وأن نغير نظرتنا التي تمركزت لعقود خلت في أذهان البعض على أنها نوع من التسلية والترفيه ومضيعة للوقت.
إن ادراك أن الواقع قد تغير اليوم، وأن ركلة كرة قد تحقق ما تعجز عنه جهود جيوش أو تعب سنوات من الاجتهاد خاصة في ظل الامتيازات المتاحة وظهور اعلام الكرة ونشوة تقليدهم وما يحصلونه من شهرة ومال ليس على الصعيد العربي وحسب وإنما عالمياً ومثال ذلك سيطرة صورة اللاعب النشمي العلوان والنعيمات والتعمري على الأذهان وتمني الاطفال قبل اليافعين أن يكونوا بذات المستوى- إدراك ذلك يفرض على المجتمع بجميع مؤسسات بدءاً من الأسرة والمدرسة والجامعة والوزارات والمجالس العليا والاتحادات ذات العلاقة بالشأن الرياضي والشبابي أن تعيد النظر بواقع الحال تقييماً موضوعياً يدفع لتغيير النهج، وإعادة رسم السياسات صورة ومضمونا، وعلى نحوٍ يلبي طموح الشباب ورغباتهم، إذ ليس من الحكمة أن نقف عند قشور الأشياء ولا نتعمق بدواخلها، كما أنه ليس من الحكمة كذلك أن نخطط لمستقبل شبابي بعيداً عن الرياضة وتمكينها لتؤدي دورها الريادي في تنمية الشباب فكراً وسلوكاً خاصة إذا ما أردنا تحقيق النهضة الشاملة في واقع الشباب الأردني والتي لطالما كانت مطلباً عبّر عنها جلالة الملك في أوراقه النقاشية، كما عبّر عن أهميتها الشباب أنفسهم، ووضعوا الاهتمام الرياضي إحدى أهم ركائزها.
وفي هذا الصدد، فإن الايمان بالفلسفة القائلة: "أنا ألعب ،، إذاً أنا موجود" تلك الفلسفة التي ابتكرها فيلسوف كان جالساً ذات يوم لمتابعة مبارة رسمت وجه العالم حتى أنها وصفت بفلسفة الوجود- لم يعد مجدياً، كما أن العمل والسعي عند حدودها لم يعد أمراً مقبولاً إذا ما أردنا المنافسة والتميز، وتحقيق رغبات الشباب التي طال انتظارها.
في الختام، وإزاء فرح الاردنيين بتأهل النشامى لكأس العالم، ليكون العيد بعيدين، فلا يسعنا إلّا أن ننحني إجلالاً لمساعي نبيلة ولقدرات كامنة وإرادة حقيقية لنشامى الوطن البارين به وله، نشامى صنعوا المجد والتاريخ، فشكراً لقيادتنا الهاشمية، وشكراً للنشامى ومشجعيه، شكراً لحلم مستحق تحقق بالتأهل لكأس العالم كأول فريق عربي، شكراً للوطن كل الوطن؛ لفرح رسموه رغم الخيبات، وأمل صنعوه رغم التحديات، وهنيئاً لنا بالنشامى وقيادتنا الهاشمية المظفرة من قبل، وهنيئاً لشعب النصر والعزيمة، وبارك الله عيده وفرحه...