فأجاب: "نكتب للجميع، لعلّ أحدهم يُولد بين السطور.”
ما نشهده اليوم لم يعد مجرد انفلاتٍ رقمي أو ترويج علاجات هامشية، بل هو تحوّل مقلق في بنية الثقة المجتمعية، تسرّب ببطء من بوابات الجهل والمبالغة، حتى تعدّى أثره الأمنَ الصحي إلى الأمنِ الوطني. هذا التمدد لا يهدد فقط الوعي الطبي للأفراد، بل يتسلل إلى أعمدة الأمن الفكري والمعرفي للدولة.
⸻
1. أرقام صادمة من ساحة رقمية منفلتة: حين تتحول الشاشات إلى مختبرات وهمية
في مشهد مقلق، تُظهر تحليلات مستقلة أن منصات التواصل الاجتماعي في الأردن بثّت خلال عامي 2023 و2024 ما يزيد عن 11,000 فيديو يروّج لمفاهيم صحية غير مدعومة علميًا. وقد حصدت هذه المواد أكثر من 94 مليون مشاهدة — أي ما يعادل تسعة أضعاف عدد سكان الأردن، إذا احتسبنا إعادة المشاهدة والمشاركة عبر التطبيقات المغلقة.
والأخطر أن 72% من هذا المحتوى احتوى معلومات صحية خاطئة أو غير موثقة، بحسب مراجعات أكاديمية متخصصة. والأسوأ أن أكثر من 410 حالة استُخدمت فيها شهادات علمية مزورة، أو تم نسب المتحدثين إلى جامعات عالمية لم تصدر عنهم أي مؤهلات.
رغم هذا، لم تُسجل إلا 30 شكوى رسمية فقط، معظمها بعد حدوث ضرر فعلي للمواطن. وهو رقم يُظهر هشاشة الحماية المؤسسية، وصمتًا مجتمعيًا مخيفًا، إما بسبب فقدان الثقة، أو الخوف من التصعيد القانوني.
⸻
2. الجمعيات العلمية: كيانات تراقب من خلف الزجاج
في وقت يُفترض أن تكون فيه الجمعيات العلمية درعًا وطنيًا ضد هذا الزيف، اختارت الكثير منها الانكماش. لم تتجرأ إلا قلّة على الرد علميًا أو إعلاميًا، بينما غلب على الأغلبية التردد والجمود، وكأنها تعمل تحت سقف "الحياد المُعطل”.
تخوّف هذه الجمعيات من "الاصطدام الإعلامي” مع المؤثرين، جعلها غائبة تمامًا عن ميادين التأثير. بل أن بعضها أصبح يخشى نشر توضيحات علمية على المنصات نفسها التي يُمارَس فيها التضليل، وكأن العلم قد انسحب طواعية من الساحة العامة.
هذا الصمت المهني، في ظل تصاعد السرديات الكاذبة، فرّغ الساحة للجهل المقنع بالأناقة، ومنح المضللين مساحة لحصد المتابعين على حساب السلامة المجتمعية.
⸻
3. التدخل الرسمي: صوت الدولة لا يُسمع إلا بعد وقوع الضرر
رغم انتشار الظاهرة، فإن الاستجابة الرسمية لا تزال خجولة وموسمية. الجهات المعنية لا تتحرك إلا بعد ضرر مباشر، بلاغ موثّق، أو شكوى إعلامية واسعة. أما ما دون ذلك، فيبقى خارج نطاق التدخل أو الرقابة.
ولا توجد آلية وطنية حتى الآن لرصد الحملات الصحية المضللة، أو تقييم أثرها، أو مساءلة من يقف خلفها. في غياب هذا، يتحرك الخطأ بأريحية، بينما يظل الصوت العلمي حبيس المكاتب.
تأخُّر التدخل لا يكلّف فقط ضررًا فرديًا، بل ينتج تآكلًا في هيبة المؤسسات الصحية، وتشكيكًا عامًا في نوايا الدولة، وهنا يكمن الخطر الأمني الحقيقي.
⸻
4. الإعلام الحواري: التوازن غائب، والضجيج يربح
البرامج الحوارية، التي كان يُفترض أن تكون أدوات إصلاح معرفي، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى ساحات استعراض غير متوازن. المؤثر يرفع صوته، يتحدث بثقة زائفة، ويكسب تعاطف الجمهور، بينما المختص يُقاطع أو يُتهم بـ”التعقيد” أو "الانفصال عن الناس”.
وقد استضافت بعض البرامج شخصيات بلا خلفية طبية واضحة، بل قدّمتهم بمقدمات توحي بالعلمية، وأحيانًا دون أي تدقيق في المؤهلات أو ترخيص المهنة.
الحلقات التي حاولت كشف الزيف كانت محدودة. أما الجريئة منها في إظهار الخطأ ومحاسبة المخالفين فتكاد تكون معدومة. وهكذا، أصبح الإعلام في أحيان كثيرة رافعة للخطأ، لا حاجزًا أمامه.
⸻
5. إعادة المشاهدة والمتابعة: مضامين التضليل تتفوق على المحتوى العلمي
تُظهر بيانات منصة "يوتيوب” وتحليلات "فيسبوك” أن مقاطع التضليل الصحي يعاد مشاهدتها بمتوسط 4.3 مرة لكل مستخدم نشط، بينما لا تتجاوز إعادة مشاهدة المقاطع العلمية نصف مشاهدة لكل مستخدم.
أما التفاعل (تعليقات، مشاركة، إعجاب) فهو أعلى بثلاثة أضعاف على المحتوى المضلل مقارنة بالمحتوى العلمي الرسمي.
هذا الانحراف في سلوك المشاهدة يشير إلى تحوّل خطير في تفضيلات الجمهور، إذ باتت العاطفة والانطباع أهم من الدليل والبينة، ما يُشكّل بيئة خصبة لاختراقات فكرية قد تُستخدم لأغراض تتجاوز الصحة إلى الإضرار بالاستقرار المجتمعي.
⸻
خلاصة: نحن أمام ملف يتجاوز الصحة إلى عمق السيادة
السكوت على ما يجري ليس خيارًا. فالمسألة لم تعد مجرد حالات تضليل فردية، بل ملف وطني مُعقد يتطلب تدخلًا على أعلى المستويات: تشريعيًا، مهنيًا، إعلاميًا، وتربويًا.
نحن بحاجة إلى:
•آلية وطنية لرصد وتتبع المحتوى الصحي الرقمي.
•قاعدة بيانات موثوقة بالمؤهلات المهنية المرخصة.
•تدخل رقابي مباشر لحماية المجال العام من التزوير.
•حملة تثقيف وطنية تُعيد بناء الثقة بالمراجع العلمية.
إن لم نتحرك الآن، فالغد لن يرحم، ولن يغفر لنا الصمت.