في لحظة فارقة تتقاطع فيها الحاجة الوطنية لإصلاح التعليم مع تحولات اجتماعية واقتصادية متسارعة، تظهر الدولة بمسؤوليتها العاقلة كمظلة تتجاوز الاصطفافات الضيقة، لتعيد تصويب البوصلة نحو الأصل: دعم المهنة، لا الصخب؛ خدمة المعلم، لا تسييسه؛ تمكين المستقبل، لا استنزاف الحاضر.
لقد برهنت الدولة الأردنية، في محطات دقيقة، أنها لا تنشغل بالرد على الانفعالات، بل تشتغل على ما يمكث في الأرض، فحين انحرفت بعض الأجسام النقابية عن دورها الطبيعي — من حماية الحقوق المهنية إلى الاستثمار في التجاذبات السياسية — لم تدخل الحكومة في معارك عبثية، ولم تسمح بانزلاق المعلم إلى فراغ مهني، بل اختارت طريقًا أكثر هدوءًا، وأكثر رسوخًا: بناء البديل المستدام.
⸻
المعلم أولًا.. لا شعارًا، بل سياسة
الرسالة كانت واضحة: كرامة المهنة لا تُصان بالتصريحات، بل بتحسين الدخل، وتوسيع الأفق المهني، وتطوير بيئة العمل، وتدريب المعلم ليكون شريكًا حقيقيًا في صناعة جيل المستقبل، لا ضحيةً في ملعب التجاذبات. وعليه، جاءت سلسلة من الإجراءات المحورية:
•تحسين المداخيل تدريجيًا، وربطها بالأداء والتطوير، ضمن فلسفة "الحوافز المستحقة” لا "المطالب المؤدلجة”.
•تعزيز البنية التحتية للمدارس، وإدخال تكنولوجيا التعليم بما يرفع من كفاءة المعلم والمتعلم.
•إطلاق برامج نوعية للتأهيل والتطوير المستمر، بالتعاون مع جامعات ومراكز بحث.
•تسويق كفاءة المعلم الأردني إقليميًا، ليكون التعليم مصدر قوة ناعمة ورافدًا اقتصاديًا.
⸻
البيانات تتكلم: دعم التعليم بالأرقام
ويأتي ذلك في ظل أرقام لا يمكن تجاهلها؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في حجم الإنفاق الحكومي على التعليم الأساسي والثانوي، مع تخصيص نسب متصاعدة من الموازنة العامة لدعم البنية التحتية للمدارس وتحديث المناهج وتطوير الكفاءات. وتم إطلاق برامج تطوير مهني لأكثر من 60 ألف معلم خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، بتمويل مشترك بين الحكومة وشركاء دوليين. كما ارتفعت نسبة المدارس المزودة بأنظمة تعليم إلكتروني وتكنولوجيا صفية من 28% إلى ما يزيد عن 67%، وهو ما يعكس نقلة نوعية في أدوات المعلم ووسائل التعلم. بالتوازي، تم رفع علاوات المعلمين تدريجيًا بنسبة تتجاوز 35% منذ عام 2019، وربطها بمؤشرات الأداء لضمان استدامة التحفيز. هذه المؤشرات جميعها تعكس تحولًا ملموسًا في فلسفة الدولة تجاه التعليم: من الاستجابة للأزمات، إلى بناء منظومة تستبقها.
⸻
حين تتخلى بعض الأجسام عن دورها… تتقدم الدولة
من الخطأ أن يُختزل المعلم في خطاب الشارع، أو يُوظف كأداة لغايات لا علاقة لها بجوهر العملية التربوية. النقابة — حين تؤدي دورها — تكون قيمة مضافة، لكن حين تنحرف نحو العبث السياسي، تُصبح خطرًا على منتسبيها قبل غيرهم.
ولأن الدولة تدرك خطورة هذا التحول، جاءت تدخلاتها صامتة ولكنها فاعلة، ليس لقمع الصوت الآخر، بل لإنقاذ المهنة من التبديد، وإعادة الانتماء إلى ساحته الطبيعية: المدرسة، والقيم، والتنوير.
⸻
معركة المستقبل: المعلم لا يُختطف
أخطر ما يمكن أن تواجهه أي دولة هو اختطاف رموزها المهنية لصالح مشاريع مؤقتة أو مصالح حزبية، والمعلم ليس مجرد موظف حكومي، بل هو بوابة الدولة للمستقبل. لذا فإن الدفاع عنه — برفع شأنه وتطويره وتحسين دخله وتمكينه — هو قرار استراتيجي لا مكايدة سياسية.
وإذا كان البعض اختار أن يُغادر مهنة التعليم ليخوض معارك الخواء، فإن الدولة اختارت أن تملأ هذا الفراغ بالمبادرة والبناء، لا بالخصومة والضجيج.
⸻
خاتمة: الدولة التي تبني… لا تشتبك
ليس من عادة الدولة الأردنية أن تدخل في مواجهات مع أصحاب الرسالة، لكنها — حين تتحول بعض الكيانات إلى أدوات تعطيل — تمضي في الطريق الأهم: تمكين المعلم بعيدًا عن التشويش، وتحويل التحدي إلى فرصة لإعادة هيكلة منظومة التعليم على أسس مهنية متقدمة.
وهكذا، يبقى الثابت: الدولة باقية والمهنة باقية، أما الصوت العالي فمصيره أن يخفت… حين لا يجد ما يُسنده من فعل.