إذا ما أردنا أن نلخص الوضع على الأرض فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، فإنه "لا يتطور لصالح أوكرانيا أو الغرب" قولاً واحداً وبلا أي مبالغات.
لهذا فأي هلاوس خاضعة لتأثير أي مخدرات من أي نوع وبأي درجة من جانب النظام النازي الأوكراني بقيادة الممثل الكوميدي فلاديمير زيلينسكي، والتي تبثها وتضخمها جوقة الدعاية الغربية، ليست سوى أضغاث أحلام، يتعامل معها ما يسمى بـ "قادة الاتحاد الأوروبي" بـ"جدية" لا تليق بعراقة وتاريخ دول مثل ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا.
وبصرف النظر عما "يهلوس" به المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرتس بشأن منح أوكرانيا ما يسميه "تاوروس"، الصواريخ بعيدة المدى، التي يراها قادرة على ضرب عمق الأراضي الروسية، وبصرف النظر عما يصرح به الزميل ماكرون من دعم لا حدود ولا سقف له لأوكرانيا في مجابهتها "الغزو الروسي"، أو رئيس الوزراء البريطاني ستارمر بشأن الدعم الأبدي لكييف وزيلينسكي، فإن الحقائق الروسية على الأرض لا شك ولا مراء فيها وهي ماضية نحو تحقيق جميع أهداف العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا وضمان أمن ومصالح روسيا رغما عن أنف الجميع.
وليست تلك ولن تكون فيما يبدو المرة الأولى أو الأخيرة التي تخرج فيها الصحف العالمية "المأجورة" حقا وصدقا بأن روسيا وبوتين تحديدا هو من يلوح "بالعصا النووية"، في الوقت الذي تبلغ به رعونة شخص مثل ميرتس بالسماح لأوكرانيا صراحة وعلانية باستهداف الأراضي الروسية، وكلنا يعلم أن أحدا في أوكرانيا غير قادر على إدارة أو قيادة أو تنسيق أداء أي من الأجهزة أو الأقمار الصناعية التي توجه هذه الصواريخ بدون دعم ومساعدة وإدارة "الناتو"، ما يعني أن "الناتو" يتحمل عمليا مسؤولية الهجوم ضد عمق الأراضي الروسية، و"الناتو" شخصيا هو من يهاجم عمق الأراضي الروسية، ما يعني تباعا أنه قد أصبح من حق روسيا، وفقا للعقيدة النووية الروسية المحدثة، استخدام السلاح النووي، لحماية الأمن القومي الروسي الذي يخضع لتهديد وجودي من جانب عدو خارجي "هجومي" يستهدف الدولة الروسية تحديدا والأمن القومي الروسي مع سبق الإصرار والترصد.
ولا أبالغ بالقول اليوم إن منظومات الدفاع الجوي الروسية تتصدى لنحو 300 مسيرة أوكرانية، زودتها بها الدول الأوروبية، وتوجهها أوكرانيا، بدعم أوروبي غربي، نحو أهداف مدنية بداخل العاصمة الروسية موسكو وضواحيها تماديا وتحديا لكل الخطوط الحمراء والقوانين الدولية والإنسانية، وبالتوازي مع "حوار" مع النظام الساقط عاجلا أم آجلا في كييف.
ويبدو أن كثافة هذه المسيرات تتناسب طرديا مع عدد الضيوف المشاركين في الفعاليات الدولية المختلفة في موسكو، بما في ذلك الاحتفال بالذكرى الثمانين للنصر على النازية، أو الدورة الثالثة عشرة من منتدى الأمن الدولي، ما يؤكد على فشل ما يظنه ويطنطن به الغرب وأوكرانيا من "عزلة دولية" لروسيا، وما يعزلون إلا أنفسهم، وليست تلك المسيرات سوى رسالة واضحة ومحددة للدورة الحالية من منتدى الأمن الدولي. وآمل أن يدرك شركاء المنتدى من الدول الصديقة مدى خطورة وأهمية الجهود الدولية التي تبذل لتثبيت أسس السلام والاستقرار ومبادئ الأمن الدولي والقانون الدولي الإنساني ضد أحزاب الحرب والصراع وسفك الدماء، التي يتزعمها مجددا سليلو الفلسفة النازية والعنصرية والشوفينية، ممن عادوا من جديد لنثر بذور حرب عالمية ثالثة جديدة لكنها نووية هذه المرة.
إن هيكل الأمن في أوروبا لا يمكن أن يتأسس على حساب أمن دول دون أخرى. فالأمن الأوروبي لا بد أن يكون أمن الجميع المبني على قدرة الكل في الحفاظ على الأمن دون خصم من أمن أحد. وأي انتهاك لأمن أي أحد، لا سيما روسيا، سيدفع نحو رد شديد القسوة بلا جدال، وأي استخدام لأوكرانيا كقفاز في صراع كهذا، سيواجه بضربات شديدة العنف ضد المواقع العسكرية الأوكرانية، بما تتضمنه من خبراء من حلف "الناتو"، وضد أي مراكز قرار تتخذ قرارات ضد المصالح والأهداف الروسية والأمن القومي الروسي.
وتورط "الناتو" على هذا النحو، ممثلاً في المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرتس، بصرف النظر عما إذا كان ذلك بإيعاز من واشنطن، أو بقرار فردي أرعن، يعد هجوما واضحا ضد روسيا، وسيضطر القيادة الروسية إلى توسيع حدود العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا واستخدام أسلحة نوعية أخرى.
وقد تناولت في كتابي الأخير، الذي يحمل عنوان "من ضدنا"، كل تلك الممارسات لحلف "الناتو" ضد روسيا بالتفصيل، بينما تثبت الأيام كل ما ورد في كتابي ولست وحدي من يدرك فهم حجم العداء والمؤامرة ضد روسيا بل يشاركني هذا الفهم وتلك الرؤية 126 وفدا مشاركا في الدورة الـ 13 للمنتدى الأمني الدولي بموسكو من أكثر من 100 دولة حول العالم، التي تختتم أعمالها اليوم الخميس 29 مايو في موسكو واستمرت ليومين برئاسة سكرتير مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو.
وفي مقطع فيديو ترحيبا بضيوف المنتدى، لفت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانتباه إلى أهمية وضرورة "بناء هيكل أمني عالمي جديد" يساهم في تطوير مناهج جديدة وهامة لتعزيز السلام والاستقرار الدوليين، وكذلك الحوار لما فيه مصلحة جميع الدول والشعوب.
وأشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى فداحة الأعمال الإرهابية التي يقوم بها النظام النازي في كييف من اغتيال القادة العسكريين والصحفيين فقال: "إن نظام كييف يعلن جهارا نهارا عن خططه لمواصلة القصف المكثف للأهداف المدنية والسكان المدنيين في الاتحاد الروسي"، مؤكدا على أن روسيا مهتمة بتعزيز التعاون مع كل من لا يصنف الإرهابيين إلى "طيبين وأشرار، ولا ينتهج معايير مزدوجة".
وأذكر أنني كتبت عام 1987، بكتابي الذي حمل عنوان "السوفيت بين اليوم والغد"، عن عملية التغيير التي تجري في الاتحاد السوفيتي آنذاك من منظور مواطن أجنبي مقيم (ولم أكن قد حصلت بعد حينها على الجنسية الروسية)، وبرغم الجهود التي سعت إليها قيادة الاتحاد السوفيتي آنذاك لنزع فتيل الصراع الأيديولوجي بين المنظمتين الاشتراكية والرأسمالية الإمبريالية، والحد من التنافس في تطوير السلاح النووي، وانتشار الرؤوس النووية، وبرغم كل التنازلات التي قدمتها القيادة الروسية فيما بعد من أجل حماية العالم والانتقال إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب خال من كل هذا التوتر، يسوده العدل والمساواة والانصياع لميثاق الأمم المتحدة، برغم كل هذا، مضى الغرب، وأثبتت الأيام فيما بعد، في تمدده وبسط سيطرته على كل أوروبا الشرقية حتى وصل إلى أوكرانيا، واستخدمها في مخططاته الخبيثة للهجوم الفعلي ضد روسيا.
لا أشك للحظة أن تكثيف استخدام المسيرات الأوكرانية والغربية ضد روسيا في الأيام الأخيرة واستقبال زيلينسكي في ألمانيا يهدفان إلى ما ترى أوروبا أنه "تعزيز وضع" الرئيس المنتهية ولايته الشرعية منذ عام بالتمام والكمال في الجولة الثانية من المفاوضات مع الوفد الروسي المقرر إجراؤها 2 يونيو المقبل، أملا في أن تضطر روسيا إلى التنازل ولو بعض الشيء عن مواقفها بخصوص الموافقة على وقف إطلاق النار. ولا شك أيضا في أن التصريحات النارية الألمانية والفرنسية المجنونة، وربما الغضب الأخير للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تصب في نفس الهدف، كمحاولات بائسة لحفظ ما تبقى من ماء الوجه لدى الغرب الذي يحارب روسيا حتى آخر جندي أوكراني، وتخسر أوكرانيا مئات وآلاف الشباب يوميا من أجل عيون وأهداف ومصلحة الغرب، وسيضطر الغرب في نهاية المطاف إلى قبول شروط روسيا، لا بشأن الأزمة الأوكرانية، وإنما بشأن هيكل الأمن في أوروبا والعالم، وبشأن ضمان الأمن القومي الروسي، ووقف تمدد "الناتو" المستمر منذ 1991.
وقد أعلنت روسيا مرارا وتكرارا عن رغبتها وعزمها وإرادتها الصلبة في وقف الاقتتال والبدء بالمفاوضات وترتيب الوضع الأمني في أوروبا بندية وجدية واتساع أفق يشمل الأمن الجيوسياسي للقارة الأوروبية والعالم، ولا يقتصر فقط على محاولات سياسية ضيقة يائسة بائسة للحفاظ على النظام النازي في كييف وشخص فلاديمير زيلينسكي بالتضحية بأوكرانيا والمضي قدما نحو الزج بها إلى التهلكة.
لن تنتهي أزمة أوروبا، ولا أقول أوكرانيا، إلا بمناقشة أزمة الهيكل الأمني الأوروبي والعالمي، ولا أظن أن أمرا سيحدث من هذا القبيل إلا عقب لقاء شخصي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب، إذا قدر لنا أن نشهد مثل هذا اللقاء.