في زمنٍ تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقة والتزييف، وتُباع فيه الكلمات مغلّفة بالذهب، وتُقدَّم فيه الحقائق مجزأة داخل قوالب بلاغية محسوبة، يصبح الصدق عملةً نادرة، لا في غيابه، بل في طريقة حضوره.
وهنا، يصبح من الضروري أن نتوقّف، ولو لحظة، عند أثر الكلمة، ونيّات من يقولها.
في كل نقاش، يبدأ أحدهم بجملةٍ صادقة.
جزءٌ صغير من الحقيقة… واضح، مألوف، مطمئن.
ثم تتوالى العبارات،
منمّقة، محسوبة، مشبعة بالثقة،
لكنها تحمل ما لا يُقال، وتُخفي الزيف الذي لا يُراد له أن يُكشَف.
الخطر اليوم لا يكمن في الكذب الفج،
بل في استخدام الحقيقة كطُعمٍ ذهبيّ داخل فخٍّ لغويٍّ مخمليّ.
لا تُقال لتنير، بل لتُعمي العيون عمّا حولها،
ليست التزامًا… بل زينةً تُعلَّق على جدار الخداع.
مَن يُتقنون فنون التضليل،
لا يُنكرون الوقائع،
بل يُعيدون ترتيبها،
يصوغونها بما يخدم الرواية،
ثم يُمرّرونها على أنها "وجهة نظر".
قليلٌ من الضوء… في نفقٍ مظلم،
وشذراتٌ من الصدق… تُمرَّر عبر موجاتٍ كثيفة من التضليل والضلال،
وحين يُقال ذلك بلغةٍ واثقة،
يصعب التفريق بين التبصير والتعتيم.
ويحدث هذا كثيرًا،
في خطابٍ شعبويٍّ يبدأ بالقيم،
وينتهي بتوجيهٍ مُبطَّن،
وفي مقالاتٍ تبدأ بالحرص على الوطن،
ثم تُمهّد للريبة.
فماذا لو أصبح جزءٌ من الحقيقة سلعة؟
تُستخدم في الحملات،
لتكريس التضليل؟
حينها، لا تعود الحقيقة غايةً، بل أداةً في سرديةٍ تخدم الخيانة.