يزخر قانون الدفاع رقم 13 لسنة 1992 بعديد المسائل القانونية التي تتطلب البحث العميق والاجتهاد الواسع، خاصة أن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تفعيل أحكام هذا القانون. وسأتوجه في هذه العجالة إلى إلقاء الضوء على مسألة قانونية مثيرة في هذا القانون هي مدى القيمة القانونية لأوامر الدفاع الخطية التي يصدرها رئيس الوزراء وبموجبها يمارس صلاحياته المنصوص عليها في قانون الدفاع؟
تتفاوت بشكل عام قوة القواعد القانونية، إذ تتدرج من الدستور ومن ثم القوانين العادية ومن ثم الأنظمة ومن ثم التعليمات وأخيرا القرارات الإدارية، وبمقتضى مبدأ المشروعية لا يجوز لقاعدة قانونية أدنى أن تخالف قاعدة قانونية أعلى، والذي تتفق معه المادة 5/ 6 من قانون القضاء الإداري رقم 27 لسنة 2014 التي حددت اختصاصات المحكمة الإدارية بـ (الطعون التي يقدمها أي متضرر لطلب إلغاء أي نظام أو تعليمات أو قرار والمستندة إلى مخالفة النظام للقانون الصادر بمقتضاه أو مخالفة التعليمات للقانون أو للنظام الصادر بمقتضاه أو مخالفة القرار للقانون أو للنظام أو التعليمات التي صدر بالاستناد إليها).
فإلى أي من أنواع هذه القواعد القانونية تنتمي أوامر الدفاع؟
يمارس رئيس الوزراء صلاحياته القانونية من خلال «تعليمات» مثل التعليمات اللازمة لتنفيذ أحكام نظام التنظيم الإداري لرئاسة الوزراء رقم 138 لسنة 2018، أو من خلال «القرارات الإدارية» التي يتصرف رئيس الوزراء من خلالها بما هو ضمن صلاحياته واختصاصاته وفق منطوق المادة 47/2 من الدستور.
ولكن بالرجوع إلى المادة 124 من الدستور يتبين أنها تعطي الشخص الذي يعينه قانون الدفاع، وهو رئيس الوزراء، الصلاحية لاتخاذ التدابير والإجراءات الضرورية لتأمين الدفاع عن الوطن بما في ذلك صلاحية وقف قوانين الدولة العادية، وأكدت المادة 3 من قانون الدفاع على هذا الحكم الدستوري بنصها بأن يمارس رئيس الوزراء صلاحياته المنصوص عليها في هذا القانون دون التقيد بأحكام القوانين المعمول لها، وجاءت المادة 10 من قانون الدفاع بهذا السياق عندما أوقفت العمل بأي نص أو تشريع يخالف أي حكم من أحكام هذا القانون والأوامر الصادرة بمقتضاه.
نلحظ من حكم المادة 124 من الدستور وبالتتابع من حكمي المادتين 3 و 10 من قانون الدفاع أن رئيس الوزراء يملك إيقاف العمل بأي من قوانين الدولة العادية على أن يكون ذلك مرتبطا بهدف تأمين الدفاع عن الوطن عندما يتعارض ذلك القانون مع أي حكم من أحكام قانون الدفاع، بالإضافة إلى أن ذلك الإيقاف يكون مؤقتا لحين إنهاء العمل بقانون الدفاع وليس إيقافا دائما. وإن المبدأ المستقر يقضي بعدم جواز إلغاء قاعدة قانونية إلا بقاعدة قانونية أخرى مماثلة لها أو أعلى منها، وهذا ما كرسته المادة 5 من القانون المدني بنصها (لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحة على هذا الإلغاء، أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم، أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع).
يتجلى من ذلك أن أوامر الدفاع الخطية وإن كانت تصدر من رئيس الوزراء، فهي بمرتبة أعلى من مرتبة القرارات الإدارية ومرتبة التعليمات، لأن كل منهما لا تتمتع بأي قوة تمكنها من وقف العمل بالقوانين العادية. بالتالي نصل لنتيجة مفادها أن أوامر الدفاع الخطية تتمتع بقيمة قانونية متميزة تشكل نوعا آخر من مراتب القواعد القانونية، إذ أنها ليست بقانون فلا تصدر من السلطة التشريعية، كما أنها ليست قرارات إدارية أو تعليمات، لأنها توقف العمل بقوانين الدولة العادية وهذا ما لا تستطيع أن تحققه القرارات الإدارية والتعليمات.
وعليه يمكن القول أن أوامر الدفاع الخطية هي «قواعد قانونية خاصة تماثل بقوتها وقيمتها القوانين العادية» من حيث أثرها على الوقف المؤقت لعمل القوانين العادية أو أي نص قانوني آخر يتعارض معها. وتختلف عن القوانين العادية بأنها – أي أوامر الدفاع – لا تستطيع سنّ قواعد قانونية جديدة يعمل بها بدلا من أحكام القوانين التي تم ايقاف العمل بها، إنما يقتصر أثرها على أنها الطريقة القانونية لممارسة رئيس الوزراء صلاحياته القانونية لتأمين الدفاع عن المملكة بما فيها وقف العمل بالقوانين العادية.
وأما الأساس القانوني لقيمة أوامر الدفاع فيتجسد بالمادة 124 من الدستور، والعبرة من إعطاء الدستور هذه القيمة لأوامر الدفاع أن تفعيل قانون الدفاع يكون لمواجهة ظرف استثنائي فلا بد من اعطاء رئيس الوزراء صلاحيات استثنائية قد تتعارض معها أحكام بعض القوانين العادية، فجاء النص الدستوري تفاديا لهذه الاشكالية بإعطاء أوامر الدفاع قيمة القانون العادي من حيث قدرته على وقف العمل بالقوانين العادية بهدف تأمين الدفاع عن الوطن، على أن يكون سقف هذه الأوامر أحكام الدستور وألا تتعارض مع أحكام قانون الدفاع نفسه، ويجوز الطعن بمدى مشروعية أوامر الدفاع لدى المحكمة الإدارية وفق ما تنص عليه المادة 8 من قانون الدفاع.
وأود أن أشير في هذا المكان إلى عدم دقة بعض الآراء التي تطالب بإصدار أوامر دفاع اقتصادية تتضمن وقف العمل ببعض الأحكام القانونية الاقتصادية وتشريع أحكام قانونية محلها لمعالجة الاختلالات الاقتصادية الناجمة عن تفعيل قانون الدفاع. فأثر أوامر الدفاع يقتصر على وقف العمل بأحكام القوانين وليس من صلاحياتها سن قواعد قانونية جديدة. وأعتقد أن هذه الآراء وقعت بخلط بين طبيعة أوامر الدفاع وبين طبيعة تعليمات الأحكام العرفية التي تصدر من قبل جلالة الملك وتنظمها المادة 125 من الدستور، فلو تم إعلان الأحكام العرفية – والتي لا حاجة لإعلانها حاليا - لكان بالإمكان إصدار تعليمات أحكام عرفية عديدة تنظم مختلف مجالات الحياة اقتصادية أو غير اقتصادية، ومثال ذلك تعليمات الإدارة العرفية للشؤون المالية والاقتصادية الصادرة بتاريخ 9/7/1967 التي كانت سارية المفعول قبل إنهاء العمل بالأحكام العرفية في المملكة عام 1989.